شادن فقيه و"ازدراء الأديان"... وخلاف حول حرية التعبير

رين قزي
الخميس   2024/05/09
لا شيء جديداً يستدعي الصدمة من ردّ الفعل على "سكيتش" الممثلة الكوميدية شادن فقيه، سوى التحول اللبناني، فعلاً لا قولاً، باتجاه القضاء كمرجع للاحتكام في خلاف لبناني، سعّره التباين حول مفهوم "حرية التعبير" و"حق الاعتراض"، وادعاءات بحصرية الاستحواذ على "الحق في التعبير"، ومحاولة إلغاء حقوق الآخرين. 

عدا ذلك، يتكرر النقاش والخلاف. ممثل كوميدي إتهم بازدراء الأديان.. فنان اتهم بالمسّ بالآداب العامة.. مغرد إتُهم بالاساءة لمسؤول أو حزب سياسي... تتكرر الانتقادات، ويتكرر النقاش: أين حدود "حرية التعبير"؟ ومن يضع ضوابطها؟ وهل يجب أن تتوقف عند الحديث عن الأديان؟ 


ويتوسع النقاش أكثر الى السجال القانوني: "لبنان ملتزم بمواثيق الامم المتحدة والاعلان العالمي لحقوق الانسان"، كما يرد في مقدمة الدستور، فيما تنص المادة 474 من قانون العقوبات، في الوقت نفسه، على أن "من أقدم (..) على تحقير الشعائر الدينية التي تُمارس علانية أو حثّ على الازدراء بإحدى تلك الشعائر عُوقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات". 

المادتان في القانون اللبناني، تزخّران هذا الاختلاف بين اللبنانيين، كذلك غياب محددات "حرية التعبير". بالنسبة لكثيرين، حرية التعبير مطلقة، لا حدود لها ولا قيود عليها، وتشمل، حكماً، بحسب التفسيرات الأوروبية، السخرية من الاديان، وانتقاد المسؤولين، ومن ضمنهم رئيس البلاد، وحتى السخرية من اي شخصية عامة تمارس العمل في الحقل العام. 

مقدسات و"ضوابط"
يخالف هذا التفسير ما هو متداول في المشرق العربي، ومناطق أخرى في العالم. في بلادنا، ثمة قيود وضوابط. وغالباً ما تسعى السلطات لاسترضاء الاكثرية التي تتمسك، في أعرافها الاجتماعية، بإبعاد "المقدسات"، سواء أكانت سياسية أو دينية، عن التداول، ضمن "ضوابط" و"سقوف" تتفاوت بين بلد وآخر.. وهو ما يفسر خروج متظاهرين في الطريق الجديدة، أو في طرابلس، رفضاً لـ"سكيتش" شادن فقيه الذي سخرت فيه من الدين الاسلامي، كما يفسر حملة الانتقادات الواسعة التي طاولتها في مواقع التواصل، والمطالبة بسجنها.  

ومع أن لبنان يراعي تلك الأغلبية بقبول دعاوى قضائية ومنع العنف واحتواء الغضب، إلا أنه يراعي الاقلية التي تعتنق المبدأ الاوروبي في الوقت نفسه، بإسقاط عقوبة الحبس، بالممارسة طبعاً، حيث لم ينفذ القضاء حكماً بالسجن بقضية "رأي وتعبير"، على الاقل منذ عشرين عاماً. وتنتهي تلك الدعاوى باعتذار، أو بتعهد وتراجع عما قيل، وهو ما حدث في "سكيتش" سابق للمثل الكوميدي نور حجار. 


حصرية الرأي
غير أن الحملة المناصرة لـ"سكيتش" شادن، وقبلها نور حجار وقضايا أخرى لمغردين متهمين بالمسّ بالرموز الدينية أو بالمعتقدات، أو بازدراء الاديان، تسقط، بغالبها، حق الآخر بالتعبير رفضاً أو انتقاداً أو شتيمة للمتهمين بازدراء الأديان. ثمة إصرار على فرض الرأي وكتم الرأي الآخر، وثمة إسقاط، ربما عن غير قصد، لحق الآخرين بالتعبير أيضاً. يبدو أن هناك محاولات لـ"حصرية" الرأي والتعبير، كذلك هناك هجوم منظم على منتقدي تلك الممارسات مع تهم معلبة بـ"التحريض على شادن" وقبلها على نور حجار، وغيرهما..

وادعاء "الحصرية"، ومحاولة تعميم رأي واحد من دون النظر في آراء الاغلبية، تعكس اخفاقات مناصري الحريات في مقاربة ملفات مشابهة. كيف يمكن لشخص مدافع عن الحريات، أن يسقط حق الآخرين في الاعتراض، وتسويق الاعتراض على أنه "تحريض" و"تهديد"، علماً أنه بالمبدأ وبالأصل، ثمة رفض مبدئي للتحريض والتهديد، وأي ممارسة من هذا النوع تستدعي ملاحقة مروجيها قضائياً، بهدف حماية الاشخاص والحد من العنف، وهي دعوة مفتوحة للقوى الامنية والسلطات القضائية لتحمل مسؤولياتها على هذا الصعيد. 

حق التقاضي
وينسحب الاعتراض على حق اللجوء الى القضاء، للفصل بين مختلفين. يدين مناصرو الحريات لجوء المتضرريين الى القضاء، وهو أمر غير مفهوم قانونياً، وغير مبرر في الممارسة السياسية. فالتقاضي، حق أساسي من الحقوق التي يفترض أن الجميع يناصرها، كون القضاء هو المرجع الصالح للبت بالخلافات، وهو، بالممارسة، البديل الطبيعي عن العنف، وعن "قانون الغابة"، وعن قانون الثأر. 


يتمسك هؤلاء الرافضين باللجوء الى القضاء بذريعة أن القضاء مسيس. حسناً، فليكن الضغط في اتجاه تحقيق استقلالية القضاء، لا إسقاط هذا الحق.. علماً أن حق التقاضي، هو مخرج سياسي وجده المشرعون في العالم لاحتواء العنف والتأزم، وللقضاء على مفهوم الثأر، ولتحقيق حصرية الدولة في إحقاق الحق. وأي دفع لرفضه أو انتقاده، هو تشريع ضمني لمنطق الثأر والعنف! 

بين هذه الصراعات، بين الأغلبية والأقلية، تقف قضية شادن التي تقدم "دار الفتوى" بإخبار ضدها في القضاء اللبناني، وهو يعلم، كما كثيرون، أن مسار القضية سينتهي بتعهّد أو باعتذار، عملاً بالعرف القضائي القائم، والتوازنات اللبنانية.