"Baby Reindeer": عن الرنّة المحبوبة والذات غير المحبوبة

علا عطايا
السبت   2024/05/04
كتب الممثل الكوميدي البريطاني، ريتشارد جاد، عرضاً خاصاً في "نتفليكس" بعنوان "Baby Reindeer"، وهو من أدائه أيضاً، ويدور حول تجربة قاسية ومؤثرة حقيقية، عاشها بنفسه، وإن تم تقديمها مع تعديلات بسيطة هنا وهناك للحصول على تأثير درامي. واعتبر جاد أن إعادة إحياء تجاربه الخاصة ومشاركتها على الملأ، رغم صعوبة ذلك، منحته القدرة على "تقزيم حجم" الصدمة والمعاناة التي تعرض لها في حياته، ما يشار إليه في المسرح والسايكودراما بالتطهير "catharsis" أو التنقية والتفريغ وإخراج ما هو مكبوت في داخل المشارك واستحضاره على مستوى الوعي.

والسلسلة المكونة من 7 حلقات، مشروع رائع ومزعج وشجاع إلى حد كبير، يتناول مواضيع الاضطراب النفسي والإعتداءات والصدمات، وتأثيرها في الفرد وعلاقاته. ويستكشف بعمق الحلقة المفرغة التي يجد الفرد نفسه داخلها في حال إهمال ما يتعرض له من تجارب عنيفة.

ويرتكز تصوير جاد لنفسه على الآثار السلبية لتجربة الاعتداء الذي تعرض له، والتي لم تلق الاعتراف والاهتمام اللازمين من قبله للتعامل معها، فانسحبت آثارها على علاقته بنفسه وبالأخرين. وبذلك بات يسعى إلى تعزيز العلاقات المسيئة في حياته. وطوال السلسلة، يستكشف جاد كيف أثّرت التجربة في حياته وكيف أعادت تشكيلها، ويبحث بعمق في اضطراب ما بعد الصدمة وعواقب الاعتداء الجنسي، ويتحدث عن دائرة العنف التي غالباً ما يجد الضحايا أنفسهم فيها.


ويؤدي جاد نسخة شبه خيالية من نفسه تسمى "دوني دن". وبعد تقديم كوب من الشاي لشخص غريب أثناء عمله في إحدى الحانات، يصبح ذلك الغريب، الذي يسميه "مارثا"، مهووساً به. في البداية، يمكن اعتبار تصرفات "دوني دون" تعاطفاً تجاه "مارثا"، لكن على مستوى أعمق، يظهر سلوكه مدى تدني ثقته في ذاته وعلاقته السيئة بنفسه، وهي من مظاهر الصدمة العميقة التي تعرض لها سابقاً. هذه هي الحلقة المفرغة للإساءة: فهو ضحية انتهاك جنسي، ما أدى إلى الاستمتاع بالإهتمام الذي يلقاه من مارثا، وبالتالي بات مكشوفاً على مزيد من الاستغلال والتلاعب على مستويات متعددة.

وعند محاولة "دوني دون" مشاركة ما يعانيه، مع أهله، تفادياً للفضيحة التي تهدده مارثا بها، يظهر أهله تفهماً، ويعترف الأب بتعرضه هو أيضاً للانتهاك أثناء عيشه في الدير. وهذا يلقي الضوء على الصدمة المنقولة عبر الأجيال (trans-generational trauma) وتأثيرها، إذ أننا لا نرث صفاتنا وخصائصنا فقط من أسلافنا، بل نرث أيضاً صدماتهم والجروح النفسية والمخاوف التي تنتقل بين الأجيال.

ويظهر المسلسل مدى تغاضي الشخصيات المختلفة عن مواجهة أزماتها النفسية وهشاشتها. فكل شخصية تظهر كحالة مركبة تعاني الأزمات الداخلية وتستحق الدراسة. من "دوني دان"، الشخصية الرئيسية، الذي ينتهي العرض بتصويره في مكان ووضعية "مارثا"... إلى "مارثا" ومآزقها النفسية واضطراباتها النفسية والسلوكية، خصوصاً سلوك التعقب (stalking) الذي يعاقب عليه القانون... إلى الأب الذي يحمل أزماته وآثار الانتهاك التي لم تندمل... إلى المخرج المُعتدي ومآزقه وتلاعبه... إلى تيري المُعالجة النفسية العابرة جنسياً التي يقع دوني في حبها وتظهر تعاطفاً وتفهماً له بينما يظهر تخبطها وعدم استقرارها النفسي عند مواجهتها لمارثا.

والحال أن هذه قصة حقيقية وتجربة مرعبة، مر بها جاد أثناء مطاردته من قبل امرأة. وفي مقابلة له العام 2019 حول التجربة، قال أن "مارثا" أرسلت له 41 ألف بريد إلكتروني، و350 ساعة من البريد الصوتي، و744 تغريدة، و46 رسالة عبر "فايسبوك"، و106 صفحات من الرسائل، وأقراصاً منومة، وقبعة صوفية، وزوجاً من السراويل الداخلية ولعبة الرنّة المحبوبة. لكن لماذا تأخر جاد في الإبلاغ عن مارثا وعن تعقبها له وتهديداتها المستمرة؟ لماذا لم يحاول وضع حد لذلك الوضع؟ هل أراد حقاً وضع حد لذلك الوضع؟ يعي "دوني دان" كل ذلك، ويشير بوضوح لديناميكيته مع مارثا، معترفاً بأنانيته وأسباب إبقاء مارثا في الجوار.

وقصة مارثا هي مثال واضح لرغبة الإنسان في الحصول على التقدير، وإلى المدى الذي يمكن أن يذهب إليه شخص ما للحفاظ على وهم ما كان عليه في السابق. فهي المحامية السابقة التي توقّع رسائلها بالبريد الإلكتروني بعبارة "تم الإرسال من جهاز iPhone الخاص بي" رغم عدم امتلاكها له، ما يشكل رابطاً رمزياً لحالتها السابقة. وربما يعكس هذا الفعل البسيط والمتعمد من الخداع حاجتها العميقة للحفاظ على هويتها السابقة، والتي تحطمت بسبب اضطراباتها النفسية وسلوكياتها التي قادت إلى سجنها.

وفي سياق العلاقات أو تفاعلات الإساءة/الانتهاكات، ليس من غير المألوف أن يعود الأفراد الناجون إلى المعتدين عليهم أو أن يحافظوا على الاتصال بهم، حتى بعد تعرضهم لاعتداء من قبلهم. غالباً ما يستخدم المعتدون التلاعب النفسي للسيطرة على ضحاياهم وإرباكهم، باستخدام أساليب مثل الشعور بالذنب، أو تقديم الوعود التي يمكن أن تقنع الضحية بالعودة. وهذا بالضبط ما حدث لدوني اليائس، إذ وُعد بالشهرة كممثل كوميدي أو كاتب، وتشبث بتلك الوعود الكاذبة إلى درجة فقدان إحساسه بذاته.

ويمكن أن تؤدي الحلقة المفرغة التي تقع فيها الضحية، إلى نتائج تؤدي بدورها إلى زيادة احتمال حصول مزيد من الاعتداءات، ما يخلق حلقة ذاتيّة الاستدامة. يمكن أن تؤثر هذه الدورة في الأفراد طوال حياتهم بطرق مختلفة، بشكل ينال من صحتهم النفسية والعاطفية والجسدية والاجتماعية.

كما أن الإيحاء بأن "دوني" ليس ضحية لأنه سمح للمعتدين عليه، ولمارثا، بمواصلة أفعالهم، هو سرد خطير. فإلقاء اللوم على الضحايا هو أحد أسباب خوف الناس من الإفصاح عن الإساءة والانتهاكات. غالباً ما يتسرع الناس ويتساءلون: "لماذا لم تهرب؟" أو "لماذا لم تبلغ الشرطة عنهم؟" وحتى "لماذا سمحت لهم بإساءة معاملتك؟". وكذلك يتسرعون في إلقاء اللوم على الضحية. ويتعلق الاعتداء، بطبيعته، بعدم توازن السلطة والسيطرة، حيث تقع مسؤولية الإساءة على عاتق المعتدي وحده. عندما نلوم الضحايا، فإننا نسبب لهم ضرراً عاطفياً إضافياً ونساهم في تكريس ثقافة لا تشجع الضحايا على طلب المساعدة.