زيارة صندوق النقد: أسرار مائدة حمائم المصارف.. وطاولات السياسيين

علي نور الدين
الأربعاء   2024/05/22
على طاولات السياسيين لم تسمع البعثة سوى الشعارات (مجلس النواب)

طوال أيّام الأسبوع الراهن، تابعت بعثة صندوق النقد الدولي، برئاسة ارنستور راميريز ريغو، جولتها على المسؤولين اللبنانيين. وحتّى هذه اللحظة، شملت الجولة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ورئيس المجلس النيابي نبيه برّي ووزير الماليّة يوسف الخليل، بالإضافة إلى حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري ورئيس لجنة المال والموازنة النيابيّة إبراهيم كنعان. وبشكل عام، لم تبتعد تصريحات المسؤولين الرسميين عن نطاق الأدبيّات والشعارات المعهودة، من دون أي تغيير يُذكر. وبعض العناوين التي تم تردادها بعد اللقاءات، كانت بعيدة -وبشكل واضح جدًا- عن المعايير التي يعمل على أساسها الصندوق أصلًا.

غير أنّ العنصر المُفاجئ الذي لمسه الوفد في هذه الزيارة، وبشكل واضح جدًا، كان انقسام المصارف في مقاربتها لمسألة برنامج صندوق النقد الدولي. ومن المعلوم أن جمعيّة المصارف تشهد منذ العام 2022 انقسامًا واضحًا، ما بين صقور يرفضون فكرة إعادة الهيكلة الشاملة، وحمائم أكثر تجاوبًا مع الفكرة، ربما بسبب قدرتهم على تأمين الحد الأدنى من السحوبات المنصوص عنه في خطّة التعافي. غير أن جولة صندوق النقد الراهنة كشفت اتساع هذا التباين ما بين المعسكرين، إلى حد استنجاد الحمائم بصندوق النقد نفسه، لفرض بعض الإصلاحات على السلطة السياسيّة المتأثرة ببعض صقور القطاع المصرفي.

مأدبة غداء المصارف
بمعزل عن التشنّج الذي يحكم علاقة جمعيّة المصارف بصندوق النقد ومقاربته للأزمة الماليّة، اختار بنك عودة هذه المرّة المبادرة واستضافة بعثة الصندوق على مأدبة غداء. وبعيدًا عن معسكر الصقور، سمعت بعثة الصندوق على تلك الطاولة كلامًا أكثر اتزانًا من حمائم القطاع. هناك، وجدت البعثة مصرفيين يملكون القدرة والنيّة للدخول بمسار ضمان 100 ألف دولار من كل وديعة، ومن ثم تصنيف المصارف القادرة على الاستمرار وفقًا لهذا المعيار بالتحديد. بالتأكيد، ثمّة ما يفسّر تكتّل الحمائم في هذا المعسكر الوديع والهادئ، وهو امتلاك هذه المصارف الحد الأدنى من السيولة والملاءة للدخول في عمليّة إعادة الهيكلة، بخلاف المصارف الأخرى المتشنّجة والخائفة على مصيرها.

الملفت للنظر هنا، هو أن هذا المعسكر الأكثر لطفًا إزاء صندوق النقد لم يقف عند حدود تقبّل بعض معايير إعادة الهيكلة. بل ثمّة من ذهب أبعد من ذلك، لمطالبة الصندوق بتشديد الضغط على المسؤولين اللبنانيين، لتمرير الإصلاحات البديهيّة، ومنها بطبيعة الحال قانون إعادة الهيكلة نفسه. بهذا المعنى، انتقل هذا المعسكر إلى ضفّة المطالبين بالخطّة الحكوميّة نفسها، بدل محاولة عرقلة بنودها ونسفها بشكل جذري.

بطبيعة الحال، لم يُسقط هذا المعسكر من حساباته بعض العناوين التي تتمسّك بها جميع المصارف اليوم، ومنها على سبيل المثال السؤال المتكرّر عن "مسؤوليّة الدولة" بخصوص خسائر القطاع المصرفي. غير أنّ هذا المعسكر بات أكثر واقعيّة، وأكثر تقبلًا لأفكار خطّة التعافي المطروحة، التي تقوم على إحالة جزء من الودائع إلى صندوق خاص، من دون ربطه بأصول أو إيرادات عامّة محدّدة. "إزالة" الودائع من الميزانيّات المصرفيّة هو الأولويّة هنا، من دون البحث المعمّق في مصير الصندوق أو أصول الدولة. هذا الجناح، بات أكثر براغماتيّة في هذا الجانب.

الملفت للنظر، هو أنّ هذا المعسكر –المتكتّل مع بنك عودة- بات يضم اليوم أكبر ثلاثة مصارف من ناحية حجم الموجودات والودائع، بالإضافة إلى مجموعة من المصارف الكبرى الأخرى. بينما يضم المعسكر الآخر مجموعة من المصارف الأصغر حجمًا، والأقل قدرة على تأمين رساميل جديدة من الخارج، في حال شطبت الخطّة الحكوميّة الرساميل القائمة. وهذا ما يفسّر مجددًا الانقسام القائم: هناك مصارف تملك ما يكفي من استثمارات ومؤسسات شقيقة في الخارج، لتعويم رساميلها في الداخل.

السياسيون يكرّرون الشعارات
على طاولة حمائم المصارف، سمعت بعثة الصندوق كلامًا تقنيًا منغمسًا في إشكاليّات إعادة الهيكلة وأدوات التعامل مع خسائر القطاع. أمّا على طاولات السياسيين، فلم تسمع البعثة سوى الشعارات التي تعبّر عن جهل -أو تجاهل- بعضهم لطبيعة الأزمة، ولنوعيّة الشروط التي التزم لبنان بتنفيذها في سياق التفاهم على مستوى الموظفين مع صندوق النقد الدولي.

أنهى رئيس لجنة المال والموازنة إبراهيم كنعان اللقاء مع بعثة الصندوق بكلام غريب وغير مفهوم، عن ضرورة التعامل مع الودائع على أنّها التزامات لا خسائر. لم يفهم كل من سمع التصريح مغزى هذا الشعار، طالما أنّ الودائع تعبّر بالفعل عن التزامات قائمة في جانب المطلوبات من الميزانيّة، بينما الخسائر -الموجودة ولو أنكرها كنعان- تعبّر عن الفجوة الموجودة في موجودات القطاع. وتمكين المصرف من تسديد الالتزامات، وتحويل الالتزامات -الودائع- إلى سيولة قابلة للاستخدام، يقتضي تحديد حجم الخسائر والاعتراف بها، ومن ثم تحديد آليّة للتعامل معها!

في عين التينة، كانت بعثة الصندوق تسمع كلامًا أكثر غرابة، عن أهميّة إعادة الودائع "مهما تطلّب ذلك من وقت". الوقت الذي يتحدّث عنه رئيس المجلس هنا، هو الفترة التي سيحافظ فيها لبنان على مصارف زومبي غير قادرة على تأمين أبسط الخدمات المطلوبة منها. والودائع التي يتحدّث عنها، هي مجرّد أرقام محاسبيّة على الورق، طالما أن السلطة لم تبادر لوضع آليّة للتعامل مع الفجوة القائمة.

بهذا المعنى، ما يتكلّم عنه برّي هنا هو المضي قدمًا بالحالة الراهنة، بدل تحديد حجم الخسائر الموجودة، ومن ثم تصنيف الودائع وفقًا لمصدرها ومشروعيتها ودرجة اتصالها بأرباح المرحلة السابقة... إلخ. الكلام عن قدسيّة الودائع، وفقًا لمفاهيم عين التينة، هو الدفاع عن الوضع الراهن كما هو.

على هذا النحو، كانت جولة الصندوق -بالنسبة للسياسيين- مجرّد عودة للعناوين ذاتها التي لا تعبّر عن فهم أو إدراك لطبيعة الأزمة القائمة، رغم مرور أكثر من أربع سنوات على بدء الأزمة المصرفيّة. وبانتظار البيان الختامي للبعثة، عند انتهاء الجولة يوم غدٍ الخميس، يمكن القول أن الجولة الراهنة لم تقدّم أي جديد على مستوى المباحثات مع السلطات اللبنانيّة. ومع ذلك، يبقى أهم ما كشفته الجولة الراهنة تعمّق التباينات بين المصارف اللبنانيّة، بخصوص كيفيّة التعامل مع مشروع إعادة هيكلة القطاع المصرفي، المبني على أساس التفاهم المبدئي مع الصندوق نفسه.