عن بيان مصرف لبنان واستمرار الهروب من المسؤوليّة

علي نور الدين
الأحد   2024/04/14
انقلب الحاكم بالإنابة على مسودّة مشروع قانون إعادة هيكلة المصارف (الأرشيف، مجلس النواب)
لأوّل مرّة منذ التغيير في قيادة مصرف لبنان في بداية آب الماضي، أصدرت وحدة العلاقات العامّة في المصرف بيانًا يوم الجمعة الماضي، للرد على جملة من القضايا التي جرت إثارتها إعلاميًا، والتي ترتبط بدور المصرف وأدائه خلال الفترة الماضية. ومعظم القضايا التي تناولها البيان، مثل مسألة دور المصرف في ملفّات خطّة التعافي المالي، وبعض الفضائح التي ترتبط بحقبة الحاكم السابق رياض سلامة، كانت قد تناولتها أو كشفتها "المدن" في العديد من المقالات والتحقيقات خلال الأشهر الماضية.

ما يهم في البيان الأخير، هو أنّه يُعتبر أوّل موقف رسمي وصريح يعبّر عن موقف مصرف لبنان وحاكميّته من هذه التطوّرات الماليّة والنقديّة الحسّاسة، بعدما اعتاد الإعلام على تداول تسريبات صادرة عن لقاءات الحاكم بالإنابة وسيم منصوري، أو بعض المصادر المقرّبة منه، لمعرفة موقف الحاكميّة أو اتجاهاتها. وهذا ما يفرض تفنيد مضمون البيان، لتقييم موقف الحاكميّة من الملفّات المطروحة في هذه المرحلة.

خطّة التعافي المالي: مسؤوليّة من؟
أولى نقاط البيان، تطرّقت إلى أثر استمرار التأخّر في إنجاز القوانين الإصلاحيّة، على مستوى إضعاف المكانة الماليّة للدولة والمصرف المركزي والمصارف، ولجهة تآكل حقوق المودعين مع مرور الزمن. كما رأى مصرف لبنان أنّ هناك ضرورة لوضع خطّة "واقعيّة وعلميّة" لإعادة هيكلة وإصلاح النظام المصرفي، ليتم وضع القوانين الإصلاحيّة على أساسها، وبدء التفاوض مع الدائنين. وفي ختام هذا الجزء من البيان، أبدى المصرف استعداده للقيام بدوره، "لإتمام ما تقدّم".

المشكلة الأولى في ما يقوله البيان هنا، هو أنّ لبنان أنجز وأقر بالفعل الخطّة الماليّة التي يطالب بها، وذلك ضمن مسار التفاوض مع صندوق النقد، وفي ضوء التفاهم المبدئي المعقود –منذ نيسان 2022- مع الصندوق. والمدهش أكثر، هو أنّ المصرف المركزي نفسه كان ممثلًا في اللجنة التي قامت بإعداد الخطّة، ومنها الجزء المرتبط بعمليّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي. لا بل إنّ المصرف المركزي نفسه عمل على إعداد المسودّة الأولى من قانون إعادة الهيكلة، قبل طرحها على طاولة مجلس الوزراء منذ شهرين.

المشكلة الأساسيّة، ليست في غياب الخطّة أو مشروع إعادة الهيكلة، بل في الانقلاب على الخطّة بعد إقرارها في مجلس الوزراء، والاتفاق عليها مع صندوق النقد. وعلى مستوى مصرف لبنان بالذات، تكمن الأزمة في انقلاب الحاكم بالإنابة على مسودّة مشروع قانون إعادة الهيكلة، بعد قيام المصرف بإعداد المسودّة.

وهذا ما يطرح السؤال عن طبيعة المصالح التي ما زالت تعرقل، حتّى هذه اللحظة، الشروع بعمليّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وفقًا لمندرجات ومعايير الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. لكن بمعزل عن هذه الإشكاليّة، يبقى من الأكيد أنّ تنكّر المصرف المركزي لوجود الخطّة، ومسودّة مشروع القانون، لا يمثّل سوى تشويه متعمّد للحقيقة.

ما هو طرح مصرف لبنان؟
بعد توضيح هذه النقطة، فلنسلّم جدلًا بحسن نيّة حاكميّة المصرف المركزي، ولنفترض أن مصرف لبنان لم يعد مقتنعًا بخطة التعافي واتفاق صندوق النقد ومشروع إعادة الهيكلة، بعد أن ساهم المصرف في إعداد الخطّة والمشروع. هل يمكن للحاكم بالإنابة أن يوضح طبيعة المسار البديل الذي يقنعه؟ وهل يمكن له أن يقدّم للرأي العام السبب الذي يدفعه للاعتقاد بأنّ ما تم الاتفاق عليه، بمشاركة المصرف المركزي نفسه، لم يعد خطّة واقعيّة لإعادة الهيكلة؟ أو على الأقل: هل يمكن للحاكم بالإنابة أن يقدّم التعديلات المطلوبة على مشروع إعادة الهيكلة، إذا كان قد اكتشف ما يقتضي تصويبه في المسودّة التي عمل عليها مصرف لبنان بنفسه؟

لم يقدّم المصرف ولا الحاكم بالإنابة إجابة مقنعة لهذا السؤال. بل ما زال مصرف لبنان يتعامل مع هذا الملف بمنطق الهروب من تحمّل المسؤوليّة: فهو يشترك بوضع خطّة، ثم يغسل يديه منها. ليعود ويطالب بخطّة واقعيّة، ولا يقدّم –كوصي على القطاع المصرفي- رؤية بديلة لإعادة الهيكلة. ثم يضع نفسه في موقع المتفرّج، الذي يطالب الآخرين بإنجاز الخطّة ومشروع إعادة الهيكلة. وفي كل هذا، يخدم المصرف المركزي وقيادته، بمعرفة أو عن غير قصد، من لا يريدون خطّة فعليّة للتعافي، ولا تفاهم مع صندوق النقد، ولا عمليّة إعادة هيكلة فعليّة.

ببساطة، ما يقوله بيان مصرف لبنان، لجهة المطالبة بخطّة واقعيّة لإعادة الهيكلة، يُعاكس ما قام به المصرف المركزي طوال الفترة الماضية، وخصوصًا على مستوى المناورات التي قام بها للإطاحة بمشروع إعادة الهيكلة، من دون تقديم بديل. وإثبات حسن النيّة، في هذه المرحلة بالتحديد، يفرض على المصرف المركزي وقيادته تقديم البديل، أو تصويب الخطّة المطروحة على الأقل، بدل الهروب من المسؤوليّة.

فضائح رياض سلامة والقضاء ومصرف لبنان
في الشق الثالث من البيان، تناول المصرف مسألة الفضائح المرتبطة بشركة "أوبتيموم"، من دون يسمّيها. مع الإشارة إلى أنّ قضيّة هذه الشركة تفاعلت مؤخرًا، بعد الكشف عن عمولات مشبوهة، بقيمة 8 مليار دولار، حطّت في حسابات الشركة، بموجب هندسات ماليّة خاصّة صمّمها الحاكم السابق رياض سلامة. وحتّى هذه اللحظة، لم يتضح بعد هويّة المستفيدين من تلك العمولات، بعد تحويلها من حسابات الشركة في مصرف لبنان.

وتمامًا كما نُقل عن الحاكم بالإنابة، عند إثارة هذه الفضيحة، اكتفى البيان بالتذكير بأن المصرف تجاوب مع القضاء بتقديم المعلومات "التي من شأنها أن تنير التحقيق"، وذلك "فور طلبها". وبهذا الشكل، وضع المصرف نفسه مجددًا في موضع الشاهد المُستعد للتعاون مع القضاء، عند طلب المعلومات، عوضًا عن لعب أي دور يتجاوز ذلك.

وبذلك، تغاضى البيان عن مسؤوليّة المصرف المركزي في التحقيق بكل التجاوزات التي حصلت خلال مرحلة الحاكم السابق رياض سلامة، وفي ملاحقة كل المخالفات التي قامت بها المصارف خلال علاقتها مع مصرف لبنان. إذ أنّ المصرف المركزي، الوصي على القطاع والحريص على أمواله العامّة، هو الأقدر على كشف جميع المعلومات المرتبطة بهذه الفضائح، قبل اتخاذ صفة الادعاء أمام القضاء.

ومن المعلوم أن المصرف المركزي وهيئة الأسواق الماليّة لا يملكان فقط القدرة على اتخاذ صفة الادعاء، بل يملكان كذلك القدرة على فرض العقوبات بحق المؤسسات الماليّة والمصارف المخالفة، كما يملكان صلاحيّة اتخاذ الإجراءات الاحتياطيّة الكفيلة بحفظ حقوق مصرف لبنان.

الإشكاليّة الأساسيّة هنا، هو أنّ المصرف قرّر التغاضي عن كل تلك الخطوات الممكنة، مقابل الركون للقضاء الذي فشل –طوال السنوات الأربع الماضية- في متابعة أي من الملفّات الجنائيّة المتعلّقة بالحاكم السابق رياض سلامة، بسبب التسويف والمماطلة وتقاذف المسؤوليّات. وبدل تحريك الملفّات القضائيّة، باتخاذ صفة الادعاء في تلك الملفّات، يتحوّل المصرف المركزي إلى متفرّج مشارك في لعبة الهروب من المسؤوليّة.

أمّا الجانب المُقلق في بيان المصرف، فهو تذكيره بأنّ تسريب مضمون التحقيقات القضائيّة يمثّل مخالفة للقانون، في تهديد واضح للمؤسسات الإعلاميّة التي تناولت خلال الفترة الماضيّة فضائح الشركات الماليّة، التي يُشتبه بتورّطها باختلاس مئات ملايين الدولارات من أموال مصرف لبنان العموميّة. رغم أنّ قيادة المصرف وحاكمه بالإنابة يعلمان بأن هذه التسريبات هي ما حرّك الملفّات القضائيّة، تحت ضغط الرأي العام، ولو أنّ القضاء فشل في استكمال التحقيقات حتّى النهاية بفعل الحماية السياسيّة الممنوحة لسلامة.