لقاءاتي مع أوستر

فوزي ذبيان
الثلاثاء   2024/05/07
لقائي الأول ببول أوستر كان "في بلاد الأشياء الأخيرة"، حيث كنت أشارك بعض ناس هذه الرواية، رفع الجثث من الطرق والأرصفة. 

ربما بول أوستر من أكثر الكتّاب عالمية، ليس من جهة الشهرة وذيوع الصيت، إنما من جهة الوقوف ملياً عند المشترك الأبوكاليبتبي للبشر. ليست المدينة الحديثة للبشر، بالنسبة إلى الكاتب الأميركي المع، سوى تمظهر لصيرورة فناء هؤلاء البشر، سواء فرادى أو بالجملة. فحتى الكارثة الشخصية في مجمل كتابات أوستر، هي انعكاس للكارثة الكبرى، حيث النفس التوراتي لا يني يتكرر، في السر والعلن. قد تكون المدونة الأوسترية في نهاية الأمر بمثابة مرثية حديثة تعكس مراثي إرميا المكتوبة في العهد القديم: "أهذه هي المدينة التي يقولون أنها كمال الجمال؟ بهجة كل الأرض؟"، يقول إرميا في مراثيه، وهو ما يردده أوستر في مجمل كتاباته، لا سيما في "ثلاثية نيويورك".

شكّلتْ "ثلاثية نيويورك" لقائي الثاني ببول أوستر، وأكثر ما يثير الرعب في هذا العمل أن اللامكان هو في النهاية والبداية سيد الأمكنة..."فنيويورك هي اللامكان الذي بناه كوني (إحدى شخصيات الثلاثية) حول نفسه...". ومن خلال القراءة الضالة التي ابتدعها الأميركي الآخر، هارولد بلوم، في رائعته النقدية A map of misreading (1975) يمكن سحب هذا اللامكان على كل أمكنة العالم. فشيوع الخراب الجوّاني، داخل أذهان البشر وأفئدتهم، يؤسس بعمق لانتفاء المكان، إلا كحيّز تتحدد معالمه إنطلاقاً من الجنازة الضخمة، جنازة الجنس البشري بعامة. يتساءل بلوم في كتابه المذكور، في أي نوع من القلق يتورّط الكاتب بإطلاق؟ ليخبرنا أوستر كإجابة منه على هذا السؤال، أنه يتورّط في كونه موجوداً في هذا العالم. ذلك أن هذا الوجود الممل النزق الأجوف البلاطائل، يتلخص، ودائماً مع "ثلاثية نيويورك"، في المعادلة التالية: "إنني أولد عندما أستيقظ في الصباح، وأكبر خلال النهار وأموت في الليل عندما أمضي للنوم". أيضاً وأيضاً إنه إنسان المدينة الحديثة، الإنسان اليونفرسالي الذي داعب ببراءة ساذجة أمزجة الفلاسفة منذ كانت الفلسفة. فاليونفرسالي الوحيد في العالم، حسب الروائي بول أوستر، إرميا مدينة العصر الحديث، هو صيرورة الكارثة.

أما وجود الإنسان ككائن مُكتفٍ بذاته، فلا يكون – إذا أردنا أن نستعير جاك دريدا – إلا عبر غيابه، ومن النافل في هذا السياق أن تتكىء "ثلاثية نيويورك" على نص لواحد أفشى قبل أوستر بعقود سر خواء المدينة، إنه بودلير الذي استجلبه أوستر عبر النص التالي: "يلوح لي أنني سأظل على الدوم سعيداً في المكان الذي لست موجوداً فيه، أو إذا شئنا المزيد من الدقة، حيث لا أوجد... حيث لا أعثر على ذاتي... في أي مكان خارج العالم". وهي الثيمة التي تتكرر بمفردات أخرى في رواية "اختراع العزلة"، حيث الثقل المدوي لمارسيل بروست وبعض أنبياء العهد القديم. فنحن في هذه الرواية، ودوماً من خلال القراءة الضالة، إزاء تداخل محتدم بين الوقائع الحقيقية للماضي مع تخيلات الذاكرة... ما الصحيح في هذا السياق؟ لا أحد يدري، إذ أن اندثار المسافة بين الحقيقي والوهمي يودي بالمرء لأن يكون حتى داخل منزله الشخصي، غريباً إلى آخر الشوط... "كان منزله مجرد محطة من محطات عديدة في وجوده المتبرم، المتفلت. وهذا الإفتقار للمركز كان له أثره في جعله غريباً أبدياً...". إن "اختراع العزلة" وفي ما يتجاوز المعنى المباشر لعنوانها، هي بالعمق، وكما يشهد الكثير جداً من متونها، محاولة يائسة لفك "لغز ما لم يحدث بعد"، ذلك أنه في معمعة فقدان الماضي واندثار الحاضر يبقى أمل العثور على الذات محصوراً في لغز ما لم يقع بعد... واستطراداً، ربما في لغز الموت.


إذا كان رولان بارت قد قال بموت المؤلف، ورونان ماكدونالد قد قال بموت الناقد، فإن أوستر، وعبر تقصّي الحد الأبعد لعباراته، قد قال بموت الإنسان بعامة. يسأل هارولد بلوم، ما هي العوامل التي تجعل من مشهدٍ ما بدئياً؟ أستطيع بكل جرأة استنطاق أوستر بسبب لقاءاتي العديدة معه، والرد على بلوم بالقول: الفناء. إن ذاكرة مستقبل العالم والتي أخذت كلمات أوستر بدقائقها هي صدى المشهد البدئي للعالم... الفناء هو المشهد البدئي وهو ذاكرة المستقبل في آن معاً.

في الكتاب الذي يتكلم فيه عن سعيه الممض لأن يكون واحداً من زمرة كتّاب نيويورك، “Hand to mouth” – وهو يشكّل واحداً من أمتع لقاءاتي بأوستر – والذي نُقل إلى العربية تحت عنوان "تباريح العيش\ سيرة الشباب"، بدلاً من عيشة الكفاف حسب الترجمة الحرفية للعبارة، يقول أوستر في هذا الكتاب: "إذا نظرنا إلى الأشياء في كنهها فسنجد العالم والقذارة متشابهين، وكيفما كان تصورنا عنها، فهذه القذارة حقيقية". إنها البدايات الأولى لأوستر والتي ستعمّق وجهة نظره الإجمالية بالعالم، كما بثّها في مجمل مدونته السردية لنكون في النهاية إزاء عالم هو بمثابة Necropolis، أي عالم يعج بمدن الموتى. يشير أوستر في سيرته الأولية هذه، إلى الكتابة كحاجة للتعرّف على الذات: "كنت في حاجة إلى فرصة لأتأكد إذا ما كنت حقاً الفرد الذي أحسبني إياه"، ولا أظن أنه تمكّن في المراحل التالية من حياته من الوصول إلى هذا الهدف، وهو ما أشار إليه في "تباريح العيش" عبر إشادته باللامبالاة..."إن اللامبالاة الحقة لقوة..."، وصولاً إلى لامبالاة الفرد إزاء من يكون بحقّ.

في "البحث عن الزمن الضائع"، يقول مارسيل بروست – وهو من مرشدي أوستر الدائمين – يقول: "الحزانى خدم مُبهمون"، بيد أن هذه الصورة الضبابية للأحزان لا تني تتناثر في كل كتابات بول أوستر، كما يشير في كتاب سيرته الأولية. فالأحزان بغاية الوضوح وبغاية الجلاء وربما يجوز في هذا السياق استبدال عنوان "رجل في الظلام" بـ"رجل الأحزان"..."وحيداً في الظلام أقلّب في رأسي العالم من حولي بينما أغالب الأرق..." وهي العبارة الأولى التي تطالعنا بها هذه الرواية حيث الكلمات أقرب إلى الغمغمة والزمجرة. ولا أخال أن أوستر كان غافلاً عن العلاقة التي تقوم بين كلمتي muttering الإنكليزية وmuttum اللاتينية... فإذا كانت الأولى تعني الغمغمة والدمدمة وصولاً إلى التأفف والتذمر والزمجرة، فإن المعنى الحرفي للثانية هو كلمة "كلمة" بالتمام. فكل كلماتنا في هذا العالم، كما يبثنا أوستر، لا تتعدى كونها غمغمات ودمدمات وتأففاً، وصولاً إلى الزمجرة والتذمر على الدوم. في هذا السياق، هل ثمة منْ إنسان في هذا العالم لم يلتق بأوستر، حتى وإن كان غافلاً عن أي من عناوينه؟! أيضاً وأيضاً إنه الروائي العالمي بإمتياز. 



لا أحد يدري أين يكمن الحد الأقصى للعبارة، إنما عبارات ناس العالم، كل العالم، كفعل تأفف وزمجرة "وضيق خلق" هو ما رصده أوستر وما كفّ عن رصده يوماً. يقول في "كيف أصبحتُ كاتباً": "حين بدأتُ الكتابة في مستهل مسيرتي، كان طموحي الأكبر يتمثّل في إنجاز كتاب واحد فقط... لم تكن لدي فكرة أن الكتاب الأول سيؤدي إلى مزيد من الكتب". وليس هذا بالأمر الغريب، ذلك أن القوة المربكة لإنتاج "في بلاد الأشياء الأخيرة" و"ثلاثية نيويورك" و"بومغارتنر" و"اختراع العزلة" و"1234" و"حكاية الشتاء" (سيرة أخرى) وصولاً إلى Oracle night والتي نُقلتْ إلى العربية تحت عنوان "ليلة التنبؤ" بدلاً من ليلة الوحي ربما لوقع كلمة "وحي" في السردية التاريخية لناس اللغة العربية، الخ...لا تني – هذه القوة المربكة لإنتاج النصوص – تستحث أمثال بول أوستر من متعقبي العالم باعتباره فجيعة، لمراكمة الكلمات ثم الكلمات ثم الكلمات.

أما بالنسبة إلى Oracle night حيث السرد الذي يتراكم "كسعي لاكتشاف هوية المرء الذي من المفترض أن أكونه" في عالم "المجانين يديرون شؤونه"، فإن اللقاء ببول أوستر كان مربكاً إلى حد الدهشة، إذ ليس من يُسر الأمور أن يُحشر القارىء – الذي هو أنا في هذه الحالة – في ثقب السؤال عمّن مِن المفترض أن يكونه!

في سياق تقريظه الشاعر الفرنسي بيير ديفيري، يقول أوستر، لقد أفرغ هذا الشاعر مساحة القصيدة من أجل السماح للقارىء بأن يسكنها. لكن، ماذا عن أوستر بالذات؟ بماذا سمح لقارئه إزاء نصوصه المتداخلة؟ ربما يكون قد نجح في إسكان متلقيه في التدفق المستمر للعالم. ربما استطاع عبر السرد المباشر وبشكل خاص عبر المجاز، التدليل على آلية استيعاب هذا التدفق الإستهلاكي، البزنسي، النووي، الدموي، الإكتئابي، الهذياني وبشكل خاص الميديائي للعالم.
يقول واحد ممن يشاركون أوستر الخلفية القابالية (التصوف اليهودي) بشكل أو بآخر، إن المجاز لا يلتقط العالم في كماله وتمامه إنما في تبعثره وتشظيه (فالتر بنيامين).

لعلّ الفحوى الأولى للقاءات المرء بأوستر هي قراءة هذا العالم الخرب عبر المجاز، بالمعنى الذي أشار إليه فالتر بنيامين المنتحر. إن التناص المفروض علينا كبشر مع الحقيقة الأبوكاليبتية للعالم، يحررنا من الدلالات المتحيزة للكلمات... يحررنا من الدلالات المباشرة، وهي لعبة أتقنها أوستر إلى حدّ كبير. فالدلالة في السياق الأوستري تقوم على ترتيب المرء لسرديته بغية المواءمة مع سردية الفناء... كان رينيه جيرار يقول: "إعادة ترتيب الواقع لا يمكن أن تتم من دون بُعد الفناء"، وكأني بجيرار في هذه العبارة يلخّص – أقولها مجبراً – كل كتابات بول أوستر.

"كنت أعي أني سأموت منذ كنت في الثالثة من العمر – يقول أوستر في "كيف أصبحتُ كاتباً" – لكن الجهل بموعد موتي جعل كل يوم من أيام عمري مثيراً". إنها الإثارة التي تقوم على اللامبالاة، على الذاكرة التي جهدتْ في فكّ ارتباطها بالعالم... بالإجمال على اقتراض ذاكرة أخرى. 

يقول أهل التأويل أن التأويل هو تصدّع في بنية الثقافات الراسخة. أما مع بول أوستر، فإن التصدّع في جملة بنيان العالم هو ما زوّده بالكلمات. ليس لكلمات هذا الروائي صوت واضح، ونادراً ما يكون الشخص الواحد في أي من رواياته هو بالفعل شخصاً واحداً، وبهذا الصدد تعلمنا اليونانية أن hetro تعني الآخر بالمطلق، وأن glot تعني الصوت\اللسان، أما heteroglossia فهي قدرة اللغة على احتواء عديد الأصوات، وهو ما برع فيه أوستر على ضوء تعقبه انعكاس خراب العالم داخل رؤوس وفوق ألسنة ناسه، حيث الهذيان والجنون المفرط. فليس أي منا واحداً بعينه، لكنه ليس الآخر تماماً... مَن نحن يا ترى؟ على الرغم من عديد لقاءاتي به، لست أدرى إذا ما كان هذا الروائي قد نجح في تقديم الحد الأدنى من الإجابة على هذا السؤال.

أختم كلامي عن أوستر الذي أشاركه عادة الكتابة بالقلم، بآخر لقاء لي معه. كان ذلك في مدينة بيروت، في بلد يدير شؤونه مجانين من نمط آخر. أسكنتُ صاحب "في بلاد الأشياء الأخيرة" في بيروت بشحمه ولحمه عبر "مذكرات شرطي لبناني". لكني استبدلتُ رأسه الجميل برأس غراب ينعق، إذ شعرتُ أن لا لغة تستطيع وصف ما حاق بهذه البلاد من خراب بما يقارع نعيق الغراب فوق الخرائب، لا سيما إذا كان غراباً على غرار صديقي أوستر.

خرج أوستر من "حجرة الكتابة" إلى رحاب حجرة أرحب، حجرة الموت التي لا حدود لها، والأمل يحدوني أن ألتقيه شخصياً يوماً ما في تلك الحجرة الفسيحة.