كالتدريب على العبور في حقل ألغام

محمد حجيري
الثلاثاء   2024/05/07
كلب غويا
يسعُ المرء الغائب شهوراً عن شوارع المدينة العريقة للمستقبل، بيروت، أو "مدينة الغرباء" بحسب توصيف الروائيين لها يوم كانت ملتقى الحريات ومأوى الهاربين من القمع، أن يخطر في باله، التسكّع قليلاً على أرصفتها. أن يطوف. أن يخرج من القوقعة المنزلية والكتابية والعزلات الطويلة المَرَضية والمزاجية، بحثاً عن الهواء وحرقاً للوقت.

ربّما في التسكع ادعاء ما. فالمرء المسكون بالكلمات وأشباح الكلمات، إذ يتسكع، يكون باحثاً عن انطباعات يتمّ التقاطها أثناء التجول والمسير. يهرب من أخبار الجرائم والانتهاكات والفضائح والزوابع السياسة، ويتعرف على الأشياء الصغيرة للحياة اليومية. يتعرف على أنفاس المدينة وطقوسها والإشارات والتحولات والعصبيات فيها، وأكثر ما يوضح ذلك صورها وأعلامها. يكمل المشوار، وينتبه لكثرة يمامها، وقدرة الطيور على العيش في مكانٍ مكتظٍ بالأسمنت.

لكن في لحظة، يلفته في مساره قصير، أن الرصيف المترهّل والمهمل ملغّم ومُطرّز (متروس ترس) ببراز الكلاب. تلك الكائنات اللطيفة التي تحضر في البيوت الشاسعة وفي السيارات الفخمة وبرفقة السيدات الأنيقات الحسناوات والشبان والأطفال، من مختلف الأنواع والأحجام، وينتشر برازها في كل الأمكنة على البلاط الداكن وقرب جذوع بقايا أشجار الزينة، وما على المرء إلا أن يسير ببطء سلحفاتي، ليتجنبها.

كأن المرء يتدرّب على العبور في حقل ألغام في بلد تقيّده وتخطفه الحروب العبثية والإقليمية والإيديولوجية، ويتكهّن بألف تكهن عن أحوال المدينة، تعاستها وأنماط عيشها ونقّ ناسها. ويكمل المسير، بحثاً عن مطعم وجبات سريعة، ويلاحظ أن براز الكلاب يختفي أو يندُر وجوده على الرصيف الآخر. وإن كان ثمّة كلب من النوع الذئب، مع صاحبه، لا يترك جذع شجرة إلا ويبول عليه، ويهرب الناس من خطواته وسلوكه. في المقابل تكثر على الرصيف أوراق الأشجار، وبقايا النفايات قرب المستوعبات وقد غطت الأرض وتحولت بسوادها طبقة مقززة تجبر العابر على الانزياح نحو طريق السيارات للهروب من الروائح وعصارة النفايات المتراكمة والتي تشبه أحوال السياسة...

لا يعرف المرء خلال تجواله القصير أو تسكعه، إن كان اللبنانيون راهناً يتسلّون بتربية الكلاب ويأخذونها نزهات رصيفية يفسحون عنها ويجدون فيها ملاذهم ويطلقون عليها أسماء عرمرية. قيل أنه إفتتح لها فندق خمس نجوم للاعتناء بها وبِراحتها وقص أظافرها وصبغ وبرها واستجمامها. والخبر ليس نكتة، بل هو تقليد لدول تعتبر أنّ لهذه الأرواح حقوقها.

في بداية الأزمة الاقتصادية المصرفية، النقدية، والوبائية الكورونية، قيل إنّ أصحاب الكلاب لم يبق معهم ثمن إطعامها وتربيتها، فأهملها بعضهم في الشارع والناحية والمنطقة، لهذا كثرتْ الكلاب الشاردة. ربّما هذا، في فترة من الفترات، تجلى أكثر في المناطق السكنية التي فيها أحراج أو أشجار. ففي آخر الليل تخرج الكلاب الشاردة من أوكارها وأماكن تواجدها، وتتبارى في النباح والعواء، كاسرة السكون والصمت، باحثة في النفايات عن أشياء تقتاتها... ربّما تربية الكلاب والحيوانات الأليفة موضة موسمية، وتركها أيضاً موضة، كما الأرغيلة على الرصيف، كما الحياة على الرصيف.

وتحضر في بال المتسكع قصيدة الرفيق أبو رضا، أو الشاعر محمد العبدالله، التي غناها أحمد قعبور يوماً:
رصيف البحر مش لحدا شوارع المدينة 
شوارع المدينة مش لحدا مش لحدا
شوارع المدينة لكل الناس
رصيف البحر مش لحدا
رصيف البحر لكل الناس
نحنا الناس
نحنا شجر الشوارع
نحنا حكايا الرصيف
نحنا الربيع
نحنا الشتي
ونحنا الصيف
ونحنا الخريف
نحنا الناس...

ربما لو تجول أبو رضا في بيروت، هذه الأيام، لخرج بكلمات ومعانٍ أخرى.