نمطية الدراما السورية التي لا تحتمل

بشير البكر
الإثنين   2024/05/06
باب الحارة
رحل شهر رمضان، وأخذ معه العدد الكبير من المسلسلات. ومن عام إلى آخر، يتعزز منهج الاستنساخ، وتقاطع المحتوى، على طريقة الأواني المستطرقة. وكالعادة، قليل مَن حاول الخروج عن السرب، لكنه لم يجد نسبة جيدة من المشاهدات، وسط التنافس في صناعة الخفة. ولم يشذ الموسم المنتهي عن سابقة، صار تكرار المكرر، بضاعة لها سوقها الرائج، ومنتجوها البارعون في تسويقها، وفرضها على الناس من أجل تعزيز الذوق التجاري الهابط، الذي يتوسل السهولة والسطحية والترفيه السريع من أجل كسب المال.

الدراما السورية ذات سمعة جيدة منذ بداية السبعينيات، وجرت العادة في نهاية كل موسم تتويج بعض المسلسلات، بفضل تحقيقها شروط النجاح في المضمون والشكل. ويعود ذلك، إلى ظهور جيل جديد من كتاب السيناريو والمخرجين والمنتجين. هؤلاء وفروا فرصاً لتألق عدد كبير من الممثلين والممثلات، تقدم بعضهم درجات على سلّم الشهرة. ومن بين كتاب السيناريو الذين أثروا في المشهدين المحلي والعربي، الشاعر الراحل ممدوح عدوان، وذلك بسبب تميزه في عصرنة بعض الشخصيات والأحداث التاريخية، مثل الزير سالم، والمتنبي، كما كتب أعمالاً ذات صبغة سياسية واجتماعية نقدية. وعلى درب التجديد، سار عدد من كتاب الجيل اللاحق. وحقق بعضهم بصمة خاصة، مثل حسن سامي يوسف، وكذلك الجيل الذي تلاه ومنه سامر رضوان، ممدوح حمادة، حكم البابا، فؤاد حميرة، خالد خليفة.

إلى جانب كتّاب السيناريو المجتهدين لصناعة دراما عصرية، ظهرت فئة أخرى، مدمنة على نحو مَرَضي على التاريخ. قدم بعض هؤلاء في البدايات بعض المسلسلات الجيدة، عن سوريا خلال الحكمين العثماني والفرنسي، وبفضل نجاح هذا النمط ورواجه، تحول إلى موضة عند البعض. ولا يزال هناك من يعيدها ويكررها في كل سنة، من زاوية مختلفة، حتى صارت تبدو ثقيلة ونافرة حيال ما يحفل به الواقع من أحداث وتطورات، تستدعي أن توليها الدراما اهتمامها، خصوصاً أنها تعد بجماهيرية كبيرة، إذا خضعت لمعالجة جيدة من جهة السيناريو والاخراج.

ومنذ سنوات، برز تيار آخر، يركز على فساد رجال أعمال وسلطة، لكن على نحو سطحي، لا يقارب الخراب الذي تعرضت له سوريا خلال حكم عائلة الأسد، على نحو أفقي وعامودي، سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي. والقاسم المشترك بين هذه الأعمال التي تلقى رواجاً، هو أنها تعطي للعنف مساحة على نحو مبالغ فيه، وتقدم المجتمع السوري على نحو مشوه. لا فارق هنا بين المسلسلات التي تم انتاجها داخل سوريا، أو لبنان، أو في بعض دول الخليج.

دور المخرج أساسي في الدراما، وهو لا يقتصر على العملية الفنية، بل، عادة، هو الذي يختار النص، ولذا كانت أهم الأعمال السورية من إخراج كل من هيثم حقي الذي برز في مسلسات كبيرة مثل "خان الحرير"، وهجرة القلوب إلى القلوب"، وتوقف عن العمل منذ حوالي عقد، وهاجر ليعيش في فرنسا. إضافة إلى حاتم علي، الذي من بين أهم أعماله "التغريبة الفلسطينية"، وانتهى مشواره برحيله المبكر العام 2020 وكان آخر عمل اخرجه هو "أهو دي الليل صار"، وهو مسلسل يحكي حياة مدينة الاسكندرية خلال قرن، وثمة معلومات غير مؤكدة قالت إنه قبل وفاته، كان يعمل على جزء ثان من الزير سالم، الذي يعد أحد أجمل مسلسلاته، وأخرى أكدت أنه لم يكمل مسلسلاً عن سفر برلك، وأكمله شريكه الليث حجو، وأصبح اسمه "سنوات الحب والرحيل".

هناك نقطة مهمة تتعلق بمسلسل "باب الحارة"، الذي يعد من بين أكثر المسلسلات التي حظيت بالمشاهدة بأجزائه الـ13. وكانت الحلقة الأخيرة منه في العام 2022، من دون إجابة عن السؤال حول سبب توقفه. لا أحد يعترف بأن المسلسل دفع ضريبة نجاحه عن طريق تكراره حد الافتعال. ورغم أن غالبية التبريرات ركزت على التكاليف المالية، وتفرّق الممثلين الذين حملوا المسلسل على ظهورهم في البدايات، فإن السبب الأكثر منطقية هو دخول المسلسل في النمطية، فتسرب إليه مرض التكرار، حتى صارت مادته مستهلكة من كثرة اجترارها. وهنا تكمن مشكلة الدراما السورية.

المسلسلات التي كسرت النمط، وخرجت عن خط الاستنساخ، هي التي عرفت النجاح، وحققت اهتماماً كبيراً، ونسب مشاهدات عالية، وحفظت مكانها في ذاكرة الناس، بينما ذهبت الأعمال الهابطة مع الريح، ولا يأتي أحد على ذكر معظمها حين يجري الحديث عن الدراما السورية. وهنا تجدر الإشارة إلى نقطتين مهمتين، تتعلق الأولى بالحرية في العمل الفني، وهي التي تسبق كل معيار للنجاح والفشل. بمعنى أن الرقابة سلاح ذو حدين لا تفلح دائماً في قمع التعبير. نجحت مرات وفشلت في أخرى، وهذا ما أتاح لبعض الأعمال أن تعرف النجاح من حيث المضمون والشكل، ولم يحصل تنازل عن أحدهما للآخر، طرح سياسي جريء بسوية فنية عالية. وهذا يحتاج إلى دراسة طويلة ومستفيضة تعتمد على الأرقام، حتى لا يبقى الكلام نظرياً. والنقطة الثانية تتعلق بالتمويل، الذي يتوسل الربح من خلال العرض في محطات ذات انتشار واسع، في غالبيتها مهتمة بالترفيه والتسلية.