فواز طرابلسي: نعيش أحقر عصر أيديولوجي بالعالم

أسامة فاروق
الأحد   2024/05/05
فواز طرابلسي
بدأ الكاتب والمؤرخ اللبناني فواز طرابلسي حديثه في اللقاء الذي عقد مساء الجمعة بمكتبة تنمية في القاهرة لمناقشة كتابه "الطبقات الاجتماعية والسلطة السياسية في لبنان" بالتأكيد على أنه لا يريد الحديث كثيرا عن الكتاب، ولكن من وحيه، لأنه محصور بلبنان في حين يمكن تطبيق ما جاء فيه على أماكن كثيرة أخرى.

قال طرابلسي إن الطبقة أصبحت كلمة "ملعونة"، لأنها خطرة، وخطرة لأن لها علاقة مباشرة بالناس وبالمساواة، ولهذا السبب تحديدا لا تنتهي محاولات استبدالها وطمسها بطرق كثيرة، ربما كان أبرزها فكرة "الفقر" نفسها، أي تحويل التراتب الاجتماعي إلى مجرد حديث عن وجود "فقر"، حتى مؤسسات وتقارير الأمم المتحدة المعنية بهذا الشأن تشارك في محاولات الطمس بوصفها للطبقات الغنية بالميسورين بحيث أصبح "هناك شيء اسمه الفقر لكن لا يوجد شيء اسمه الغني، هناك الفقر وهناك الطبقة الوسطى للقول في النهاية أنه توجد طبقة عادة ما يسمونها الطبقة الوسطى العربية، يعنى هناك 370 مليون عربي عندهم طبقة وسطى!". من محاولات الطمس أيضا استبدال "قيمة العمل" بالفقر، حيث ابتُكر مع مطلع الألفية مشروع "إبادة الفقر" بحيث تنتفي الحاجة للبحث في الطبقات ولا تعديل العلاقة بينها، وانتهى الموضوع من إبادة الفقر إلى الحد من الفقر، ثم أصبح الآن "الحماية الاجتماعية" مع ابتكار معدل للفقر والنتيجة أن ذوي الدخل فوق 4 دولارات أصبح ينظر لهم باعتبارهم طبقة وسطى!

البحث في الطبقات يثير عددا لا بأس به من الالتباسات وفقا لما قاله طرابلسي، فهي شكل من أشكال الانتماء والتضامن توزع بناء على شروط هي: الموقع من الاقتصاد، الحصة من الثروة الاجتماعية، الموقع من علاقات الإنتاج، مستوى الدخل. بالتالي نصبح أمام شكل من التراتب/الانقسام الموجود في المجتمع، لكنه ليس بالجمود الذي يظهر به، فهناك سيولة بين هذه الطبقات، فيمكن لمهندس أن يخسر عمله ويسقط إلى مصاف الحرفي مثلما يمكن الارتقاء الاجتماعي للفئة المتوسطة أيضا. لكن هذه السيولة مرتبطة بالشروط السابق ذكرها "هذا الانقسام يتعايش مع انقسامات مختلفة أخرى في ظل الرأسمالية، نستطيع أن نقول إن الرأسمالية لا تكتفي باستغلال العمل، فاستغلال عمل المرأة المجاني مثلا أحد العناصر التي تستند إليها الرأسمالية، واستغلال ما يمكن تسميته بالهويات الجماعية، التي تتراوح من المسألة الطائفية للتمييز العنصري، بصفتها في النهاية أشكالاً من الاستغلال المضاعف للعمل".

لكن مجال الاستغلال الأكبر في نظره هو "السوق" والميزة التفاضلية لرأس المال هي في احتكاره للسوق، وهو المدخل المنهجي الذي اعتمد عليه في كتابه المبني على أبحاث قامت انطلاقا من الحالة اللبنانية لتشخص الكثير من الأمراض المشابهة في المنطقة، وكان من أبرز ما اكتشفه: ندرة المساهمات بعلم الاجتماع أو الاقتصاد، القائمة على الاعتراف بالتراتب الطبقي في المجتمع، والطابع العائلي للرأسمالية اللبنانية أو الأوليغارشية الحاكمة المتداخلة بين السلطة الاقتصادية والسلطة السياسية. بحث أيضا في علاقة الجماعات بالسلطة السياسية، والعنف، وتوزيع الثروة، والريف والمدينة، والوصول إلى التعليم والخدمة العامة وكان من أهم ملاحظاته أننا نادرا ما ندرس الطبقة العليا "على الأقل هذا الكتاب حاول أن يظهر هذا التراتب.. هناك قمم الاقتصاد أو الأوليغارشية وهناك برجوازية صناعية، وهناك الطبقات المتوسطة والتي تشمل حوالي 40% من الشعب اللبناني، وهناك الأجراء وهم كل من كان مصدر معيشته الرئيسي هو الأجر".
ورغم ذلك يعود ليقول إن المسألة ليست بهذا الوضوح، والطبقات في النهاية ليست شيئاً ملموساً نستطيع أن نضع أيدينا عليه بسهولة، لكنها تظهر فقط في الأزمات والصراعات وتتراجع أحياناً ليحل محلها أشكال أخرى، يوضح: لا توجد طبقات بدون الدولة. ومن وظائف الدولة إعادة إنتاج التراتب الطبقي، وهذا يفسر ما يقال عن أن السلطة السياسية تخدم فئة دون أخرى. الدولة بالتالي هي التي ترسخ التفاوت "وما يؤخذ بعين الاعتبار أن الصراع الطبقي ليس فقط من أسفل لأعلى، بل إن الحالة اللبنانية هي نموذج للصراع الطبقي العكسي من أعلى لأسفل". ودلّ على ذلك النموذج العكسي بما قاله وارن بافيت أحد كبار المليارديرات بأميركا "سألته النيويورك تايمز: هل تؤمن بوجود صراع طبقي؟ فقال: أكيد، ولكن طبقتي الثرية هي التي تشن هذه الحرب وهي التي تنتصر فيها!".

يؤكد طرابلسي أيضا أن الطبقات مؤشر سلوك ووعي، بالتالي يمكن الاستدلال عليها ليس فقط من خلال الاحصائيات، ولكن بالتعبير الفردي أو الجماعي "فالوعي الطبقي هو حدود ما تستطيع الطبقة أن تتخطاه بإدراكها.. وكل محاولات طمس الصراع الطبقي هي محاولات لإبعاد شبح ما كان يسمى بالطبقات الخطيرة وهي العمال والفلاحين لدورهم في المجتمع".
وهي الفكرة نفسها التي دارت حولها غالبية أسئلة الحضور، عن مساهمة تلك "الطبقات الخطيرة" في الحراك الاجتماعي بمصر ولبنان، وأجاب طرابلسي بأن المجتمعات قائمة بالأساس على الصراع، وما ذُكر من أشكال الصراع في 2011 بمصر أو 2019 بلبنان هي بالأساس عَرض لأزمات، أو محاولة لتجاوزها. الفقراء في نظره انتفضوا ضمن انتفاضات أوسع بمقدار ما كانت هذه الانتفاضات واضحة بالنسبة لهم، ورفعت 4 شعارات هي "عيش حرية عدالة اجتماعية كرامة إنسانية" لكن الحركات نفسها لم يكن لها علاقة بتلك الشعارات، بل كانت بالأساس ضد السلطوية والفساد، لذا فإن بعض المتفائلين اعتبروها تشخيصاً أو علاجاً للأمراض المطروحة، بمعنى أنه كان هناك بطالة واستبداد وتفاوت اجتماعي وامتهان لكرامة الفرد وبالتالي كان الجواب هو ضرورة وجود عمل وحرية وعدالة وكرامة.

بشكل عام يؤمن طرابلسي بأنه لا يوجد عمل سياسي اجتماعي إلا وله إيحاء ما، كما أن انتهاء الأيديولوجيات وهم بالنسبة له، يقول: "نحن نعيش أحقر عصر أيديولوجي بالعالم لأنه قائم على أيديولوجية واحدة" حيث شهدت الأجيال الماضية النزاع بين الحرية والمساواة، والآن يدعي البعض بأن السرديات الكبرى انتهت رغم إننا في نظره لدينا سرديات كبيرة وكبيرة جدا اسمها "السوق"، وربما كان تاريخنا كله يعاد قراءته ولكن بأسماء أخرى دقيقة وملغومة في الوقت نفسه "يعنى كان هناك تنمية أصبح اسمها نمو، وكان هناك شيء اسمه عدالة اجتماعية صارت حماية اجتماعية تقتصر على أن نعطي بعض الأموال لفقراء عندما يقل الطلب بالسوق!".
ويظل السؤال الكبير في رأيه هو ما وراء تلك الأحداث كلها، وهو ما يواجه دائما بالتجاهل، فلا يبحث أحد في القوى الفاعلة في تلك الأحداث ولا بمطالبها الأساسية، بالتالي يتم اختزالها إما بالنجاح أو الفشل، لكنها بالنهاية حركات شعبية، وما يؤكد ذلك تكراراها بنفس الطريقة "تقوم حركة شعبية واسعة وتُحبط، طرف آخر ينتصر، لكن ليس معنى ذلك أنها فاشلة لأنها ليست واعية أصلاً، خاصة أنها اصطدمت بقوى أقوى منها. هي فقط خسرت الجولة". يندهش طرابلسي من أنه منذ 2011 وحتى الآن لا توجد محاولة جدية لدراسة القوى الاجتماعية التي كانت موجودة وشاركت بفاعلية في تلك التحركات "أنا مندهش أن تمر أحداث من هذا النوع دون أخذها بعين الاعتبار، وسأظل أصر على أن هذا ضياع كبير لنضال وجهد ملايين من العرب".

اختتم طرابلسي إجاباته على الأسئلة بالحديث عن غزة معتبراً أن العملية التي قامت بها كتائب القسام هي "أهم عملية كفاح مسلح تقوم بها حركة تحرر عربية" منذ معركة الجزائر عام 1957 حين احتل عدد من مجاهدي جبهة التحرر الوطني الجزائريين مدينة الجزائر لنقل الثورة من الأرياف إلى المدن وإعلان الثورة الجزائرية على الملأ.

لكنه يرى أن شعب غزة هو وحده المنوط بمحاسبة العملية على ما ادعته، رغم إنه يأخذ بشكل جدي إعلان الحركة لثلاثة أهداف كبرى هي: حماية المسجد الأقصى، وتبادل الأسرى، وانهاء الحصار على غزة. لكن نقاط الضعف "الكارثية" في نظره هي أولا موقف السلطة الوطنية الفلسطينية "هذه العملية ستخسر ولن تكتمل إلا بتحقيق الحد الأدنى من إنهاء الانقسام بين الضفة وغزة، ودخول كتائب القسام وكتائب شهداء الأقصى إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وإجراء انتخابات.. بغير ذلك لن يصبح لهذا كله معنى، إذا ظل هناك شيء اسمه أرض السلطة الوطنية مقسومة لقسمين". يرى طرابلسي أن هذا النمط من العمليات ليس نمط تحرير وإنما نمط مقاومة، فلا حديث بموضوع التحرير بدون الحديث عن الجيوش العربية، وهو ما يقود إلى النقطة الثانية من نقاط الضعف وهي الوضع العربي أو المشاركة العربية التي تطرح بدورها سؤالاً أساسياً لخصه في "أين الملايين؟ فإذا كان مئة ألف يقاتلون فماذا يفعل بقية البشر؟!".


(*) شارك في المناقشة محمد زبيب، الصحافي الاقتصادي اللبناني، ورئيس تحرير موقع صفر. وأدار النقاش وائل جمال الباحث في الاقتصاد السياسي، ومدير وحدة العدالة الاجتماعية بالمبادرة المصرية.