من التماسيح للكتاكيت.. المثقفون المصريون بين ثورتين!

أسامة فاروق
الجمعة   2024/03/29
يعود مجاز التماسيح للظهور مجدداً في 2013
"ليس هناك نهاية للفن. النهاية فقط للواقع" 
بدر الديب - "إجازة تفرغ"

تعتبر رائعة الكاتب والمترجم بدر الديب "إجازة تفرغ" خير معبر عن حال الوسط الثقافي المصري وأزمة المثقفين المصريين خلال مرحلة الستينيات وما تلاها. بطل "صنع في حزيران" بتعبير الكاتب الصحافي والمؤرخ صلاح عيسى عن مثقفي تلك الفترة، فنان صدمته النكسة إلى حد التحطم فجفت منابعه وأصابته حالة من الحصر جعلته يرى نفسه برؤية أوسع.

تدفعه أزمة الوطن لاعتزال جو المثقفين الزائف في خلوة بيته قرب ملاحات الإسكندرية، هناك يتفرغ لتدوين اعترافاته ولمراجعة نفسه ومحاسبتها، ومراقبة العالم الذي يتحول من حوله، فيرى إنه منذ ثورة 1952 ومع إنشاء المؤسسات الرسمية في الثقافة والإعلام، ظهرت على السطح "تماسيح صغيرة" نبتت حراشفها وسعت لتثبيتها وتقويتها عبر التحرك في "مستنقع آسن مخضوضر فيه ظلال ودسامة الركود" حديثهم عن الثقافة والفن والفكر مقرون دائماً إما بالوحدة العربية أو بالاشتراكية العلمية أو بالثقافة الجماهيرية أو بالإمبريالية ومستقبل العالم، ولم يكن غرضهم من هذه الرطانة كلها إلا تحقيق أهداف ومنافع شخصية رخيصة في معظمها "كتاب صغير في سلسلة، أو كتابان، ومقالة هنا أو مقالة في صدر جريدة"، لكن على ضألة مأربهم فإن تأثيرهم كان كبيراً جداً "كانوا وكأنهم موكولون بإفساد كل شيء واللعب في كل عروق وخلايا الناس حتى لا تبقى ذرة من أجسامهم لم تشبع".

أراد بطله "حسن عبد السلام" الابتعاد عن هذا المستنقع، كان الفن وحده هدفه وغايته، فلم يسع لمال ولم يشته شهرة أو سلطة أو منصباً، "كل حياة غير الفن كانت بالنسبة لي موضعاً للتلخيص والإيجاز. فهل هذا هو نفس خطيئتي؟". يصل الفنان للإجابة لكن بعد فترة قصيرة عاشها مع الجنود على الجبهة أثناء حرب الاستنزاف، فرأى أنه إذا كانت أزمة الفنان انعكاساً لأزمة الأمة، فإنه يبقى دائما قادراً بالثورة والتمرّد على أن يظل على الأقل حريصاً على حلوله الشخصية لأزمته، وعلى تشبثه بمعتقده الشخصي الفردي. نتيجة توصل إليها بعد أن فقد مع النكسة أي ثقة في أي وعد أو عمل، وتأكد بأنه في ظل أوضاع كتلك فلا نجاة لأحد "كنت أحس أن كل الهرج الكبير الذي صاحب إعادة البناء لن يؤدي إلى شيء، لأنه يتم في الخفاء ومن سلطة علوية".

أوضاع تسببت في حالة حصر عامة إذاً، لم تكن تخصه وحده كما يقول في محصله استنتاجاته "عشنا جميعا في هذا الحصر القومي الذي نلتقط فيه ما يرمى إلينا من فتات المعلومات والتجارب والخبرات حتى كادت نفوسنا وعقولنا تضمر من قلّة المعلومات وندرة المشاركة ومحدودية الفعل".

وكان يعرف أنّ كل ما يجري يتم تحت أعين المؤسسة الرسمية وأن أحداً من تلك التماسيح الصغيرة الشرهة لم يكن ليقدر على ما يفعله لولا سماحها وموافقتها، وبالنسبة لمن لم يكن يؤمن بأي عمل محكوم برقابة خارجية فإن استمرار هذه الأوضاع كان يعني ببساطة تعمق الحصر واستمراره.

التماسيح الجدد
يعود مجاز التماسيح للظهور مجدداً في 2013 لكن هذه المرة لتسجيل صورة المثقف خلال عقد التسعينيات وحتى ثورة يناير 2011. لحظة تحول أخرى يسجلها يوسف رخا في رواية بالعنوان نفسه "التماسيح". يسجل ميلاد ووفاة آخر الجماعات الأدبية التي ظهرت نهاية التسعينات في اليوم نفسه لانتحار المناضلة الطلابية والمثقفة اليسارية المصرية أروى صالح. مبتسرون جدد يساءلون أنفسهم مبكراً جداً في جو من التهوميات والتمرد والجنس والمخدرات عن دورهم فيما آلت إليه الأمور خلال مرحلة التسعينيات وحتى قيام ثورة يناير 2011.

أحد أفراد الحركة يراجع نفسه فيرسم صورة أوسع للمشهد كله وقتها، يقول الراوي أو "فتيس" أو يوسف نفسه إن الجيل الذي بدأ ينشأ في التسعينيات وجد ربما لأول مرة في تاريخ الكتابة أن الأجيال السابقة عليه لا تدافع عن بقائها أمام حضور دخيل بل تدافع عن "خواء" أسست له! صاحبه تراجع لكل الأفكار القومية والماركسية أمام الرأسمالية والتدين، إضافة إلى أفول نجوم الستينيات. بل إنهم وجدوا أنفسهم مجرورون إلى حروب وهمية حول الكتابة وشكل القصيدة وحتى المسائل الشخصية، صاحبها حملات تكفير وتخوين في الصحافة والإعلام "كان السبعينيون يدافعون ليس عن وجود يخصهم ولكن عن نوع معقد من العدم، في الشعر وفي السياسة: على التسعينيين إما أن يكونوا تافهين -في السياسة كانوا تافهين فعلا- أو أن يسحقوا تماما".
 
لاحظوا كيف تعمل دائرة المثقفين في القاهرة، راقبوا فساد مجتمع ينبذهم "تعاملنا بوصفنا ممثلي طبقة أو طائفة أو حتى أسرة صغيرة ليس بوصفنا مواطنين، وينتظر منا أن نبدّي المال والسلطة لأشخاصنا فقط على ما سواهما لنا أو لغيرنا" وضع تصبح معه الهوية كأنها حكم بالحبس مدى الحياة كما يعود ليصفها. راقبوا كيف يتحول المثقفين إلى جسور يعبر فوقها أقرانهم نحو مستقرات أقرب لمراكز المال والسلطة، والعكس أيضا كيف يتحولون إلى عراقيل في طريق بعضهم إلى تلك المراكز "كانت أنماط سلوك من شأنها أن تستتبع تخوينا أو أبلسة في الدائرة ثم دهشة وذعرا في المجتمع الأوسع". لذا وبدافع الخوف من "أسود" على وشك افتراسهم لم يكن بدا من أن يتحولوا من "أولاد ناس" إلى "تماسيح" مع وعي كبير بالمجاز يوضحه المؤلف في ثنايا النص، فالتماسيح لا تستخدم أسنانها إلا لتقطيع الفريسة، بينما لكي تهضم طعامها فعليها أن تبتلع أيضا الحصى والحجارة "كان التماسيح يحتفلون بإنشاء جماعتهم، كما سيفعلون كل شيء، سراً: تحت سطح الماء أو -الأدق- أثناء إحدى ولائم البرك البذيئة وهم يتخاطفون اللحم من أفواه بعضهم البعض وتنتفض أجسادهم أو تدور دورات كاملة على أصوات القضم والابتلاع فيما هم مغموسون في الطين".

وجدوا في تلك المخلوقات الشرسة كل صفات الشاعر السري: "تدمع بغزارة بينما تلتهم صيدها، وفي جلدها شباك من العظم تجعله مضاداً حتى للرصاص، وإنها -عكس ملوك الغابة التقليديين- لا تعلن عن قوتها أو تختال بها".

في مونولوغ طويل، يشرح الراوي طريقة تفكير هذه الجماعة وهذا الجيل، عقده، وأوهامه، وأزمته بطبيعة الحال يقول: ظللنا نحارب أفكارنا الدفينة عن ذواتنا، ولم يخطر لنا لحظة أننا إنما نقتل أجزاء من هذه الذوات ولا كم هي ضعيفة ويائسة، معرضة للقفز من شرفة في الدور الحادي أو الثاني عشر. بطرق شديدة التعقيد قلقنا الأعراف التي تربينا على أنها ثابتة ورفضنا أن تكون لنا صلة بمؤسسات لم يكن من شأنها أن تعطينا دخلا كبيرا بما يرضينا أو بيتا كما يجب أن يكون البيت، ولا نسق حياة يمكننا من إنتاج أشياء خارقة للعادة.

إذا نظرنا إلى ما حدث فعلا لتلك الجماعة، وما واجهه الجيل نفسه بعدها من إبعاد وتهميش ومحاولات سيطرة، نجد أنهم أبعد ما يكون عما وصفوا به أنفسهم.. ربما كانوا غزلاناً أو كتاكيت! فلم تتمكن الجماعة من الصمود وتحللت تحت وقع تحولات كثيرة جرت لأصحابها وللوسط وللمدينة من حولهم، غرقوا فيما أسموه "رغى" أو "مكلمة" أو ركود التسعينات ثم جاءت الثورة ففتحت جرحا غائرا "أتابع من بعيد تطورات ثورة انتظرناها ونحن لا نعرف أننا ننتظرها، وحين جاءت مارقة كقطار أخير تركتنا مشدوهين على رصيف المحطة، أفكر في كوننا أصبحنا حالة أو مأساة" وتفتح الباب واسعاً كذلك أمام مراجعة الذات بل وحتى جلدها، حد اعتبار انهم لم يتجاوزوا جيل السبعينات في أي شيء جوهري ولذلك لم يكن لهم دور مباشر ولا كبير في أحداث 2011. ضاقت عليهم أماكنهم وتقلصت رؤيتهم للمستقبل أو بالأحرى تسلموا المستقبل بعد أن تحولوا إلى "نصب رخامي بلا تمثال". لكن تحركات كثيرة وبطيئة في الوسط نفسه كانت قد سبقت التحول الكبير، ظهرت مثلا دور النشر الخاصة، وأماكن عرض بعيدا عن المؤسسة الرسمية، وتبدلت أوراق اللعبة تدريجيا حتى المشهد الختامي "كان شيء يتغير منذ بداية التسعينيات -شيء سيؤدي إلى تفتت التماسيح وإحباطنا والثورة، بعد ظهور الأسد- ليس فقط في تحول الإسلام السلفي من نشاط سياسي تحت الأرض إلى وجيب اجتماعي فوقها. كان كل شيء يفتح مجالا للعمل ويحرك الأموال قليلاً فيما الحكومة تجتر مدخول الخصخصة". 

كتَبة وكتّاب
نتيجة يحللها الكاتب والمستعرب الفرنسي ريشار جاكمون في كتابه "بين كتبة وكتّاب الحقل الأدبي في مصر المعاصرة" كمحصلة نهائية لبحثه الطويل، إذ يصل إلى أن الديمومة وإعادة التكرار، لا التغيير، هي التي سادت داخل الوسط الثقافي المصري منذ الستينيات وحتى نهاية التسعينيات تقريباً، التغييرات جميعها حدثت بعد ذلك ويشير إليها في الحاشية التي أضافها في الطبعة الجديدة الصادرة مؤخرا، فيلفت إلى ترتيب جديد للحقل الأدبي المصري يختفي فيه تقريباً التعارض القديم بين الطليعة والمؤسسة، ويحل محله المنطق الاقتصادي المتوجه نحو السوق "لذلك فإن الجماعات والحركات الأدبية، كأداة ضرورية في النضال من أجل انتزاع السلطة الرمزية والتكريس في الحقل الأدبي تفقد سبب وجودها".

مسألة استقلال المثقف هي محور كتاب ريشار المهم الذي يناقش الفكرة بالتفصيل بدءاً من ستينيات القرن الماضي وحتى نهاية التسعينيات، باستعراض واسع للمشهد الثقافي المصري، ويشرح تفصيليا ما سبق أن أوجزه بدر الديب ويوسف رخا لكن بنماذج أخرى.. بدءاً بما أسماه بـ"سنوات الجمر" التي بدأت فيها سيرورة التباعد على اثر هزيمة 67 حيث ظهرت لأول مرة منذ 1952 أشكال للتعبير والتنظيم الجماعي في قطيعة مع المؤسسة الرسمية، وتظهر بعدها سلسلة من "المغامرات الجماعية" منها مجلة "غاليري 68" وهي أول مجلة أدبية طليعية تنشر خارج إطار المؤسسات الرسمية، ثم "كتاب الغد" بعدها.

وتستمر حالة الشد والجذب طويلاً إلى أن تتكرس القطيعة بعد اتفاقية كامب ديفيد، ثم تتخلخل الأمور بعدها تدريجياً ويتم إنشاء كيانات ثقافية ومنابر صحافية تسعى ليس فقط لضم المثقفين تحت لوائها، لكن أيضاً توفير فرص العيش لهم عبر وظائف ثابته ومرتبات مجزية، للعمل والكتابة تحت شعارات متعدّدة منها التنوير والعروبة ومحاربة الإرهاب والتطرف.. إلخ.

وتستمر المراوحة ثم الركود لسنوات طويلة حين تحل فترة الوزير فاروق حسني الذي سعى خلال سنوات عمله الطويلة (1987–2011) لتدجين المثقفين وتأسست على يديه نظرية "الحظيرة" بل وأثبتت نجاحاً ملفتاً رغم تعرضها لهزات عنيفة ربما كانت أقواها رفض صنع الله إبراهيم لجائزة ملتقى الرواية العربية عام 2003. 

عالم ما بعد الحظيرة! 
الأعمال التي تناولت الأوضاع خلال الثورة وبعدها كثيرة جدا. كثيرة إلى حد أنه يصعب حصرها، حدث ما يشبه الانفجار وأصبحت حتى اليوميات العادية تنشر باعتبارها روايات، يظهر الوسط الثقافي بكثافة في تلك الأعمال، ويظهر المثقف كشخصية روائية معبرة بامتياز عما يجري، أحيانا مثل دون كيشوت غارق في حيرته أو همومه الشخصية وأحلامه المغدورة ومعاركه الوهمية، أو مناضلا حقيقيا يحاول استعادة أمجاد الماضي، "كأن الكاتب يحاول أن يحفر مكان لنفسه في تاريخ هذه الثورة كفرد كان مشاركاً فيها من دون أي كيان ثقافي يحميه"، كما تقول الناقدة شيرين أبو النجا في تقديمها للطبعة الجديدة من كتاب ريشار.

تتساءل أبو النجا: هل أراد المثقف الاستقلال عن المؤسسة احتجاجاً على ممارستها التي لم يمكنه الانخراط فيها أم اقتناعا منه بالفكرة على المستوى المعرفي؟ مشيرة في الوقت نفسه إلى الاقتناع الذي ساد لدى البعض وقتها بإمكانية التغيير من الداخل "إلا أن اشتداد وطأة الصراعات وانعدام التوازن في علاقات القوى بين المثقفين من ناحية والمؤسسة من ناحية أخرى، بالإضافة إلى تردى الوضع السياسي والاقتصادي، دفع المثقفين إلى التبرؤ الكامل أو الجزئي من المؤسسة والمناداة بالاستقلال بعد 2011". ما تؤكد عليه أن ثورة 25 يناير كانت بمثابة الخط الفاصل بين مرحلة وأخرى، وأن العالم الذي عرفناه في التسعينيات من القرن الماضي قد تغير كثيراً وفقد ملامح كنا نظن أنها لن تتلاشى "تدريجياً سرقت روح تلك الفترة ليحل محلها الآن منظومة تحمل أطناناً من رأس المال المادي وتكاد تخلو من أي رأس مال رمزي" بل تعود لتقول إن شكل الحقل الأدبي تغير كثيرا لأن علاقاته أصبحت خاضعة لسيطرة "ما هو أكبر من رأس المال الرمزي" لتعيد التأكيد على ما بدأت به تقديمها بأن الكتابة عن سيرة وحياة الحقل الأدبي في مصر الحديثة ليست أبدا بالأمر الهين، وأن طريقها محفوف بالتحديات "وأحيانا بالمخاطر" نظرا لتعدد العوامل المؤثرة والمتصلة بفعل الكتابة ذاته، ولأن الحقل الأدبي ليس منقطعا عما يحدث خارجه، في إشارة ليس فقط للمؤسسات السياسية أو الدينية أو الرقابية أو ما أسمته بـ"حراس الحدود" ولكن أيضا للتطورات التكنولوجية المتلاحقة، ومواقع التواصل، والجوائز، وصولا لتقنيات الذكاء الاصطناعي.

تحول يرصده بحساسية شديدة، الروائي أحمد الفخراني الذي تسلم طرف الخيط في روايته الأحدث "المشاء العظيم" حيث يستدعي رواية بدر الديب لتكون ربما النص الوحيد الحقيقي في حلقة من الزيف يدور فيها أبطال العمل.. الروائي قليل الموهبة الطامح للشهرة محمد الأعور والروائي المنسي فرج الكفراوي، حيث يسرق الأخير روح الأول مقابل أن يهديه ست روايات ويحتفظ لنفسه بآخر رواياته لتخلد اسمه وتنتشله من الموت والنسيان. يوظف الفخراني خبراته كصحافي ومعرفته بالوسط الثقافي في رصد دقيق جداً لما يجري داخله، مستكملاً ما كان قد بدأه هو نفسه في عمله السابق "بار ليالينا"؛ رحلة البحث عن المأزومين والمزيفين وسارقي الأرواح.

ففي الرواية التي وصلت إلى اللائحة الطويلة لجائزة البوكر العربية، العام الماضي، يعود الكومبارس نوح الرحيمي بعد 20 عاماً، إلى البار الذي طرد منه والذي يقتصر رواده على نخبة من المثقفين؛ فيكشف زيفهم وخوائهم ويذيقهم من الكأس نفسها. أملا في أن يفهم عبر محاكاتهم، السرّ الذي جعله مجرد رجل أحمق محدود القدرات وحوَّلهم إلى تماسيح فائقي الذكاء.

شخصيات جاءت من وحي فشل الثورة، كما قال الفخراني في حواره مع موقع جائزة البوكر: "كنت محبطاً، كان علي أن أتساءل، هل من قادوا أو تصدروا للمشهد الثوري وآمنت بهم، كانوا أذكياء كما ادعوا؟ هل يفهمون الشعارات التي يدعون إليها بعمق، أو يكررونها كالببغاوات؟ كيف تصرفوا أحياناً بوصف الذكاء طبقة تفصلهم عن الحمقى، الحمقى في نظرهم كانوا الجميع ما عدا أنفسهم، كيف لم تعد الأفكار التقدمية على أيدي "الأذكياء" وسيلة بحث عن الحقيقة، بل عملاً دؤوباً للتعمية على تلك الحقيقة، كأن الحقيقة لم تعد تهم، بل التمسك بسلوكيات معينة فارغة من المعنى".

مشهد أخير
أخيرا يأتي العمل الذي يرسم المشهد الختامي، كدليل نهائي وبات على التحول، يتبدل حتى المجاز، فتختفي التماسيح ويدور الصراع كله بين "ديوك وكتاكيت"!

في روايته الأحدث التي جاءت بالعنوان السابق الإشارة إليه يتتبع نائل الطوخي شلتين واحدة من عجائز المثقفين يشتهر أحدهم فيجن جنون البقية وصولا للتشرذم الكامل، وأخرى من الشباب، مثقفين في طور التكوين، تتقاطع مصائرهم معا في ملهاة من ثلاثة فصول. يجري كل من فيها وراء أوهامه وأشباحه وأمانيه المرتبطة بشكل ما بأوهام وأحلام الآخرين.. الجميع ساخط وغاضب ومرتبك يجري وراء سراب ويبحث عن تحقق وهمي حتى ولو على حساب الآخرين.. كبار وصغار ديوك وكتاكيت.

جميعها نماذج مهزومة تائهة وضائعة ومشوهة، لكن الملاحظة الأبرز ربما تكون في تقوقع الكبار على أنفسهم، حيث لم يعد يجدي الاقتراب من مؤسسة لا تراهم ولا تقدم لهم شيئاً.

فبمرور الوقت انقطعت العلائق تماما مع ذلك الكيان الرسمي وبقى المثقف وحيدا يجتر يوميات ثورته أو يحتال عليها بالمجاز. أجيال غارقة في أوهامها تحاول بما تبقى لها من قوة أن تمتص زهرة حياة الأجيال الأحدث وتورثها أمراضها في الوقت نفسه. حل الاستغناء بديلا عن الاستقلال واختفت التماسيح أو كادت وبات الصراع كله منحصر بين الديوك والكتاكيت المدجنة بالكامل فلم تعد هناك حاجة حتى لبناء الحظيرة.