"زردشت صار كلباً".. صرخة في بلاد المذلّة

ربيع شامي
الخميس   2024/03/28
المسرحية الثالثة لـريمون جبارة ضمن الاحتفالية التكريمية له في مسرح مونو
هي المسرحية الثالثة لـريمون جبارة ضمن الاحتفالية التكريمية له في مسرح مونو. "زردشت صار كلباً"، سبق أن قُدمت العام 1978 في مسرح كابيتول في بيت مري ولم تنل وقتها الحظ في نسبة المشاهدة، لبُعد المسرح والمسافات، ثم أعيدت في مسرح بيروت العام 1996 وكانت من تمثيل غابريال يمين وجيزيل بويز، الكو داوود، أنطوان ابي عقل، جهاد الأندري بالإضافة إلى أنطوان الأشقر.

كتب ريمون جبارة "زردشت صار كلباً" خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وتضم المسرحية لوحات أو مسرحيات قصيرة جداً تتناول ذلّ الإنسان من حيث الخوف الصادر من السلطتين الدينية والعسكرية، ومن موضوع المليشيات في زمن الحرب التي حولتْ رجلاً مثقفاً إلى كلب لإطعام أولاده. كل هذا الألم كتبه جبارة بقالب كوميدي ساخر ولاذع.

لطالما اعتبر جبارة في أحاديثه الصحافية إن العمل المسرحي يتألف من عناصر ثلاثة: الصوت، والصمت والحركة، وإن الإيقاع اكتسبه من المخرج بيرج فازليان الذي عمل معه كممثل في أكثر من عمل، ومن عازف البزق مطر محمد الذي يقول عنه جبارة: "تعرفت إليه في سهرة. كان يعزف ثم يصمت دقائق، وأحسست أن صمته استمرار للحن". جزء من مسرحه يمثل طفولته أو دهشته الأولى. وهو مزيج من السوريالية والعبثية، وسخريته ليست ضاحكة بقدر ما هي سوداوية مأسوية يستمدها من رؤياه الخاصة في معنى الوجود. الوجود الذي يعتبره مشروعاً فاشلاً في الحياة، ويزداد فشلاً حين يخضع للقوانين السموية والأرضية، مُضافة إليها قوانين وسلطات أفرزتها الحرب الأهلية اللبنانية، وكان جبارة من أشد المنتقدين لسلطاتها وزعمائها بخطاب مباشر في معظم أعماله.

زردشت معاصراً
قُدّمت "زردشت" أخيراً في مسرح مونو، من تمثيل أنطوان الأشقر وسلمى الشبلي، جوزف ساسين، رامي عطالله وموران ملاعب. وحمل إخراج أنطوان الأشقر، الكثير من الوفاء لذكرى ريمون جبارة وعمله، لا سيما "رجل الهاتف" الذي يفتتح العرض ويفصل بين اللوحات الثلاث، ممهداً بمونولوغاته المباشرة وهو يتحدث الى جدته الميتة بنبرة لا تخلو من سخرية وإدانة للحرب والتقسيم المناطقي.

"الله شو بدو؟ عم تحكي هيك يا ستي لأنك قاعدة بمنطقتو؟ يمكن بدك تقولي شي ومش مسترجاية. متلو متل غيرو، شو قليلة عليه، بيطلعلو منطقة"... موجع خطاب ريمون جبارة، ولوحاته الثلاث فيها الكثير من الخوف والذل. بدءاً من المسافر المسكون بالخوف المرَضي الذي يزداد رعبه حين يلتقي في القطار مع رجل الدين والضابط لينتهي هذا اللقاء بسكتة قلبية. إلى اللوحة الثانية الساخرة والموجعة عن الإنسان وجسده في غرفة انتظار عيادة الطبيب الذي ينتهي باستئصال الجسد الإنساني بأعضائه كافة.

وشكلت اللوحة الثالثة ذروة العرض، وهي فكرة مستوحاة من "حكاية الرجل الذي صار كلباً" للمسرحي الأرجنتيني دراغون، وأضاف عليها مرارات الحرب في خطاب مباشر الى الجمهور بعد تحول الانسان إلى كلب يمشي على قوامه الأربع، وعن هذا الدور يقول أنطوان الأشقر: "الجمهور يخرج بسؤال كبير عن كيف نعيش وما هو موقفنا من كل ما حدث ويحدث". أما عن بناء شخصية الرجل المثقف، فيقول: "حين أديت هذا الدور قبل 28 عاماً، لم أكن بهذا النضج. وحين فكرت فيه اليوم، فكرت فيه كمواطن لبناني يعتمد على ذاكرة متراكمة من الغضب المكبوت، اعتمدت على ذاكرتي الانفعالية لأجمع كل هذا الغضب واللوم والإدانة، لأقول ما كتبه ريمون جبارة والذي بقي صالحاً كما لو أنه كتب اليوم". 

"زردشت صار كلباً"، صرخة احتجاج على انهيار الانسان داخل الحرب، بحكم تضافر علاقات القوّة التي تسحقه حياتياً واجتماعياً وثقافياً. وهو في مسرحه، وإن رفض المسرح السياسي بمعناه المباشر، الا أن أعماله التي نشاهد استعاداتها هي عمليات هدم لكل الشرعيات بلا تمييز، سواء كانت سماوية او أرضية، لينحاز الى الانسان ومعناه الأزلي ولشرائع حقه في معنى وجوده.