الثلاثاء 2021/10/26

آخر تحديث: 12:02 (بيروت)

المرأة المعيلة و"الأزمة اللبنانية": القهر والعوز والموت مرضاً

الثلاثاء 2021/10/26
المرأة المعيلة و"الأزمة اللبنانية": القهر والعوز والموت مرضاً
أم معيلة ومريضة بالسرطان وماكينة خياطة معطّلة وبلا كهرباء.. كانت آخر أمل لتأمين قوت أسرتها (المدن)
increase حجم الخط decrease
كمن يعيد ترتيب شظايا حياته المبعثرة، جمعت سناء عميري قيس بعض الأخشاب، وقطعتها بالمنشار وحولتها إلى طاولة، لتستعين بها في تحضير بعض المؤنة لتبيعها. وأجابت سناء -وهي مريضة سرطان- على سؤال عن الصعوبات التي تواجهها المرأة المُعيلة في لبنان، في ظل أزمة اقتصادية وحياتية، وصفتها جهات محلية ودولية عدّة بأنها غير مسبوقة في هذا البلد منذ نشأته.

أعمال المشقّة
وسناء (48 عاماً) سيّدة لبنانية من بلدة نحلة (بعلبك). وهي أم لثلاثة أطفال، تقيم في منطقة تسمى الأجنحة الخمسة في الشويفات الساحلية، غير بعيدة من بيروت. وتصف عملها لمدة أشهر ثلاثة  بدوامين -من السابعة صباحاً حتى الثانية عشر ليلاً، لسداد ديون تراكمت عليها، منذ غياب زوجها السجين في بلد عربي، وجهادها لتأمين قوت عائلتها اليومي- بأنها المرحلة الأصعب في حياتها. بعد ذلك عملت في معمل خياطة، وتضيف: "كنا مستورين"، لكن صاحبة المعمل قررت إقفاله سنة 2019، بسبب انهيار القطاعات الإنتاجية مع قيمة العملة اللبنانية. ومذ ذّاك صارت سناء عاطلة عن العمل.

ولأن الفقير وحده من يشعر بالفقير، تبرعت أم لثلاثة أطفال يتامى بماكينة خياطة لسناء، علّها تساعدها على مواجهة صعوبات الحياة. لكن انقطاع التيار الكهرباء عطل آلة الخياطة، فجعلَ كسب المال منها أمراً شبه مستحيل. وتقول: "أنتظر التيار الكهربائي، ولو لنصف الساعة في اليوم، لإصلاح قطعة ثياب مقابل بدل مالي لا يتعدى 10 آلاف ليرة".

المدارس والسرطان
وتكافح سناء لتأمين بدلات النقل لإيصال ولديها إلى مدرسة داخلية مجانية، وفرت عليها كلفة التعليم والطعام والشراب لأربعة أيام أسبوعياً. لكن "كلفة المشوار الواحد إلى المدرسة تبلغ 45 ألف ليرة، علماً أنني بحاجة إلى 8 مشاوير في الشهر". وتعاني سناء من أوجاع جسدية لا تحتمل، نتيجة إصابتها بسرطان الثدي منذ سنتين. وبحرقة تروي معاناتها مع المستشفيات. فهي رفضت جميعها إجراء صورة شعاعية لها، بسبب خلافاتها مع وزارة الشؤون الاجتماعية، التي توقفت عن الدفع لأصحاب المستشفيات منذ مدة. فبعد 4 زيارات لكِلا الجهتين في محاولة لنيلها الموافقة "رميتُ كل الأوراق والتحذيرات الطبية والأوجاع خلفي، وقررت التوقف عن المحاولة"، تقول بحسرة. وآخر مراجعتها لطبيب الأورام كانت قبل حوالى سنة ونصف السنة. حينذاك طلب الطبيب منها صورة مكلفة جداً: مليون و700 ألف ليرة (يوم كان سعر صرف الدولار 3 آلاف ليرة). واستسلمت سناء الموجوعة لقدرها وللظروف المحيطة بها، والتي تكاتفت على عرقلة متابعتها العلاج. وجل ما تتمناه صيانة ماكينة الخياطة المتوقفة منذ فترة.

لا جهة رسمية أو غير رسمية ساندت سناء في محنتها. هي قامت بتعبئة الاستمارة الخاصة ببطاقات وزارة الشؤون الاجتماعية (صحية ومالية وتغذية) قبل 3 سنوات. لكنها لم تتلق أي ردّ حتى الآن، وتقول: "لطالما صدّتني موظفة المركز بأسلوب فظ، طالبة مني الانتظار.. فالواسطة هي التي تحكم بين فقير وفقير في هذا البلد". لاحقاً، قابلت مدير عام الشؤون الاجتماعية، فقال لها إنها ستحظى بالأولوية في زيارتها المقبلة. 

طفل وزوج معوّق
في مخيم شاتيلا، لا تهدأ رندا شري (47 عاماً) ليل نهار، سعياً لرعاية ولدها مصطفى وزوجها الذي يعاني من إعاقة في رجله. تقول بابتسامة فطرية لا تفارق وجهها إن "العامين الأخيرين كانا مرهقين جداً، خصوصاً في تأمين العلاج والرعاية الصحية لزوجي". وسبق لرندا أن عملت في كافتيريا مدرسة، مقابل أجر يومي زهيد (10 آلاف ليرة قبل الانهيار الاقتصادي). ولكن إقفال المدارس نتيجة تفشي وباء كورونا، ومرض زوجها المفاجئ، جعلاها تحمل اليوم صفة "عاطلة عن العمل".

"أعاني الأمرّين في المستشفيات. وما بين بيتي وزوجي وطفلي، ومرض التهاب المفاصل الذي أعاني منه، يحل الليل وأنا مقطوعة الظهر"، تقول رندا مشيرة إلى بطاقة المساعدات التي تمنحها وزارة الشؤون الاجتماعية للأسر الأشد فقراً. وهي تبلغ 500 ألف ليرة شهرياً، فلا تلبي شيئاً  من احتياجاتها في ظل تضخم الأسعار. أما الجمعيات الأهلية فرفضت مساعدتها في تأمين مبلغ مالي لإجراء عملية جراحية لزوجها: "أتلفوا ملفي. لم أطلب سوى 500 ألف ليرة. هل هذا كثير؟!"، تتساءل.  

الزبائنية نهجاً يضاعف التحديات
هل تخضع عمليات توزيع المساعدات، الرسمية والأهلية، على الفئات الفقيرة والمعدمة لطغيان الزبائنية والمحسوبيات؟

محمد عباس -العامل الاجتماعي الذي شهد حالات عدة قاهرة في السنوات الأخيرة- يجيب أن الأسر المحتاجة لا تلجأ في بعض الأحيان إلى الجمعية المناسبة. لذا تحاج هذه العائلات إلى دليل معلومات يرشدها إلى الجهة المناسبة للاهتمام بوضعها ومعاناتها.

ويحذر محمد من عمليات التزوير والخداع التي تقوم بها بعض الجمعيات بإعلانات تبالغ فيها أو مزيفة حتى. فمرة تواصل محمد مع جمعية فرنسية وضعت إعلاناً لافتاً عن تحمّلها كلفة عمليات في  مستشفيات أربع. وتبين أنها ترفض تحمّل كلفة أي عمليات جراحية تشمل مرضى السرطان أو الكلى أو الكبد، وغيرها من الأمراض المزمنة.. إلخ. ويضيف: "الأولوية في برامج استهداف الفئات المهمشة، سواء في الوزارة أو المؤسسات والجمعيات الخيرية، تكون للمرأة الأرملة. أما المرأة المُعيلة فتأتي في المرتبة الثانية. لذا فهي تواجه تحدياً مضاعفاً في الحصول على الإعانة".

ويتحدث محمد عن مشاهداته في ما يتعلق بتأثيرات وتداعيات الأزمة الراهنة، قائلاً إن طبيعة عمله تحتاج إلى جولات دائمة على العائلات الفقيرة وتوزيع إعانات وحصص غذائية. "لكن عدم توفر البنزين في البلد كان له تأثير سلبي على العائلات، التي تنتظر بفارغ الصبر مجيئنا لكي نلبي حاجاتها"، ويضيف محمد: "كانت أمام 3 خيارات: "تسوّل" البنزين، والاستعانة بمواقع التواصل الاجتماعي، أو تجميع أرقام الفانات والتاكسيات التي غالباً ما يكون ردها عدم توفر البنزين. للأسف، يقول: "لا جهة رسمية أو حزبية أو مدنية عرضت المساعدة. علماً أن هناك حالات طارئة جداً، لو تحدثت عنها لتحرك الرأي العام".

أرقام وانتظار
لا نظام رعاية اجتماعية وسواها من الخدمات التي تحمي المواطن، وخصوصاً الفئات المهمشة خلال الأزمات، في لبنان. وتكشف أرقام وزارة الشؤون الاجتماعية أن حوالى 250 ألف أسرة مصنفة ضمن الأسر المعدمة أو الأشد فقراً، أي بنسبة 23 في المئة من مجمل العائلات اللبنانية. فيما يقع الفقر المطلق على أكثر من 500 ألف عائلة. وحالياً، يساعد برنامج استهداف الأسر الأشد فقراً 35 ألف أسرة -وهذا رقم متدن حسب محمد- فيما تتكفل جزئياً وزارة الشؤون الاجتماعية برعاية 14 في المئة فقط من الأسر المعدمة!

لكن، ألا يتوفر المال في ميزانية الوزارة لدعم برامجها؟ وأين أموال الهبات والمساعدات الخارجية؟

يجيب مدير عام وزارة الشؤون الاجتماعية، القاضي عبد الله أحمد، في حديثه إلى "المدن": "بلى يوجد مال. ولكن المشكلة تكمن في إدارة توزيعها". ويكشف عن مشروع جديد لنظام الحماية الاجتماعية في الوزارة، سينطلق أواخر عام 2021، ويقول: "المسودة أصبحت جاهزة". أما هدف المشروع  فإيصال الرسالة التالية: "لو أحسنتم إدارة الأموال بشكل صحيح لاستطعنا تغطية 80 في المئة من الأسر المعدومة. ليتبقى 20 في المئة فقط. وهنا ننفّذ مبدأ المديونية".

وانطلاقاً من استراتيجية الوزارة الجديدة باستهداف عدد أكبر من الأسر المعدمة، تقوم فرق الوزارة بزيارات إلى 135 ألف منزل، بدءاً من الأسبوع المقبل، لاختيار 40 ألفاً منها مصنفين ضمن الفقر المدقع. وبهذا تكون الوزارة قد شملت في برنامجها 75 ألف أسرة من أصل 250 ألفاً. أما عن آلية اختيار الأسر المعدمة، فيشير القاضي أحمد إلى أن المرأة التي تعيل العائلة في ظل إعاقة الزوج، أو الأرملة، هي من ضمن الأولويات.

ماذا عن البقية؟
يجيب القاضي بأن هذه الأسر مشمولة ضمن مشروع قيمته 246 مليون دولار من البنك الدولي لدعم الأسر اللبنانية الفقيرة والأشد احتياجاً، وبناء نظام شبكة الأمان الاجتماعي. ويغطي المشروع ما بين 160 ألفاً إلى 180 ألف أسرة. وهكذا تستطيع الوزارة دعم الأسر الأشد فقراً بشكل كامل. وتبقى الأسر الواقعة في فقر مطلق.

لكن مشروع البنك الدولي متوقف الآن "بسبب تعثر إطلاق البطاقة التمويلية، التي نقف ضدها"، يضيف القاضي أحمد.

اختلاف الآليات
وهو يوضح أن برنامج الوزارة يشمل زيارات منزلية، وكشف ومسح للأسر المسجلة، بهدف التدقيق في المعلومات المعطاة، فيما خطة البطاقة التمويلية تشمل استمارة، يكتب المواطن فيها ما يحلو له من معلومات غير دقيقة، من دون رقيب أو حسيب. ويضيف القاضي أحمد: "برنامجنا ممول من جهة معروفة. أما البطاقة التمويلية فتمويلها غير معروف حتى الآن".

وهو يتحدث أيضاً عن البطاقة الغذائية التي تؤمنها الوزارة، والتي ارتفعت قيمتها بدءاً من شهر أيلول الفائت، نتيجة الأزمة. وهي تؤمن حالياً مبلغاً مالياً بقيمة 25 دولاراً للأسرة و15 دولاراً لكل فرد. وهذه مبالغ صغيرة بحسبه. إذ تتلقى عائلة من أربعة أفراد ما يقارب مليون ليرة شهرياً، للعيش في بلد يعاني من تضخم في الأسعار.

ألا يعتبر هذا المبلغ زهيداً نسبة إلى التضخم الحاصل، والذي تجاوز 600 في المئة؟

يجيب المدير العام للشؤون الاجتماعية أن "هذه الأموال هبة من الخارج. والمبلغ حُدد بعد قيام المجتمع الدولي بحسابات دقيقة تتعلق بتحديد الأولويات. ولسنا مستعدين لمنح المساعدات لتوفير الكماليات".

برنامج الارتهان والخضوع
لا تتأمن الحاجات الأساسية للفئات المهمشة في لبنان عموماً، أسوة بدول العالم. لذا لا يطبق في هذا البلد مبدأ حماية المواطن وصون كرامته. ومصطلح "حماية المواطن" يشمل ضمان وتوفير الحقّ في الرعاية الصحية الشاملة، التربية والتعليم، المسكن، الطعام، بيئة صحية، إلخ. وهذا مفقود في لبنان. وربما يعتبره الساسة هنا مصطلحاً يناقض ما قامت عليه السياسات العامة في هذا البلد: أي الزبائنية والارتهان والخضوع السياسي والانتخابي، في مقابل تأمين الحاجات الأساسية. وإذا كانت هذه حال الفئات الفقيرة والمعدمة، فالمرأة معيلة أو فقيرة أو مريضة، تظل الأكثر تضرراً. وفي جولة في بعض مناطق لبنان، ورداً على سؤال: "ماذا تنتظرين من الدولة؟" كان الجواب واحداً وصادماً: لا جواب.  

*أنتج هذا الموضوع بدعم من برنامج النساء في الأخبار التابع للمنظمة العالمية للصحف وناشري الأنباء "وان-ايفرا".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها