السبت 2019/10/26

آخر تحديث: 18:03 (بيروت)

المطر يقتل

السبت 2019/10/26
المطر يقتل
increase حجم الخط decrease
تقول الرواية الصحافية إن الطفلة مروة (9 سنوات) "تم نقلها إلى المشفى" حيث "تبين وفاتها". غير أن الصورة، والفيديو، بيَّنا أن مروة كانت ميّتة منذ وقت طويل، "ثلث ساعة" يقول البعض، "ساعتان" يقول آخرون، الأكيد أنها كانت غارقة تماماً، في مياه لا يتجاوز ارتفاعها ركبة الإنسان. فقد قتلها صعق الكهرباء، لا الغرق. وما انتشلها لم تكن سيارة إسعاف، بل جرّاراً. كأنما هي صخرة تدحرجت من بناء متهدم، وعلى وقع صراخ الأم والأهالي. عادت تلميذة الصف الرابع الابتدائي إلى حضن أهلها جثة هامدة، ولم يكن في مقدور أبيها سوى أن يطالب، بوجه منكسر، بـ"تحقيق تحت رعاية الرئيس".


مروة لم تكن سوى واحدة من بين 19 مواطناً على الأقل، سقطوا ضحية "زخّة مطر" شهدتها القاهرة وضواحيها ومدن الشمال المصري، يوم الثلاثاء الماضي. لم يكن ثمة سيول ولا عواصف، لم تستمر الأمطار في بعض المناطق أكثر من دقائق، وامتدت في أقصاها لساعات، لكن التنوّع في تهالك البنى التحتية، التي أنشئ بعضها حديثاً، أدى إلى تنوّع في وسائل الموت. فمثل مروة، مات آخرون بينهم أطفال، بامتداد الكهرباء من أعمدة الإنارة إلى ماء المطر المتراكم، وغيرها من سقط من فوق سطوح منزله محاولاً نزح الماء عن سقف عياله، وعن حوادث الطرق حدّث ولا حرج.


غير أن "قتلى المطر" هؤلاء لم يذكرهم بيان الحكومة بكلمة ولو على سبيل التعزية، "لا شبكة تصريف أمطار في مدننا المختلفة" يعترف البيان، لكنه يبرر "مدننا القائمة تم تخطيطها من دون هذه الشبكة، نظراً لأن بلادنا من البلاد الجافة". غير أن الاستفزاز كان لا يزال في بدايته: "كلفة إنشاء شبكة منفصلة لتصريف الأمطار، مليارات الجنيهات، وإمكاناتنا المالية لم تكن تسمح بذلك". وكأن أزمة مصر السياسية لم تدُر في الشهور السابقة حول إنفاق الأموال الطائلة على القصور والعواصم الجديدة.

"معظم الدول لا تنفذ هذه الشبكات باهظة التكاليف، خصوصاً عندما لا تتعرض لمثل هذه الظروف الجوية الصعبة، إلا لفترات نادرة كل عام أو اثنين". وتسهل ترجمة هذه العبارة إلى أن "موت حفنة بسيطة من المواطنين أقل كلفة من إنشاء شبكات التصريف". غير أن التناقض يبلغ، بعد بضعة سطور من البيان، ذروة العبث: "إن ما شهدته البلاد، من سوء في الأحوال الجوية، من الممكن أن يتكرر في أكثر من مكان علي مستوى الجمهورية خلال الفترات المقبلة، وذلك في ضوء ما يشهده العالم من تغيرات مناخية، وموجات الطقس السيء تعرض له كثير من دول البحر المتوسط خلال الأيام القليلة الماضية". ثم يحذر مجلس الوزراء، المواطنين في محافظات شمال الدلتا، من أنه "طبقاً للتقارير الواردة من الجهات المعنية، فسوف تشهد محافظاتهم يوم الجمعة المقبل موجة من الطقس السيء"!

لا تكفي إعادة قراءة البيان، مئة مرة، لحلّ ذلك التناقض: فـ"بلادنا جافة" لا تلزمها شبكات لتصريف "الأمطار النادرة"، ومع ذلك: ستشهد البلاد "تكراراً لموجات الطقس السيء في الفترة المقبلة". ألا يعني ذلك أن تلك الأمطار لم تعد "نادرة"، وأن وصف" البلاد الجافة" لم يعد مناسباً، وأن تستدعي تلك "التغيرات المناخية" تغييراً مماثلاً في خطط البنى التحتية؟ لا يبدو ذلك، فـ"إمكاناتنا لا تسمح".

في الوقت ذاته، بلغ حجم الضرائب المحصلة من المواطنين، ما يساوي 70% من حجم الموازنة المصرية، وبلغ إجمالي ما أرسله المصريون في الخارج من تحويلات إلى الداخل حوالى 29 مليار دولار في عام واحد، أي أضعاف ما تحصّله مصر من إيرادات قناة السويس وإيرادات السياحة مجتمعة. ينفق المصريون العاديون، من جيوبهم مباشرة، على اقتصاد بلادهم، لكنهم، في لحظة الحقيقة، تُغرقهم زخّة مطر.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب