من المؤكد أن معركة حلب خالفت التوقعات، ففيما عدا القدرة العسكرية اللافتة للفصائل المهاجِمة، التي استطاعت في وقت قياسي السيطرة على تحصينات مهمة للنظام وحلفائه وفك الحصار عن حلب الشرقية، هناك أيضاً مفاجأة تتعلق بالمواقف الدولية والإقليمية الغامضة. فقبل المعركة كانت كافة المؤشرات تقول بأن حصار حلب أتى بتغطية دولية وإقليمية، الأمر الذي لا يمكن نفيه تماماً حتى مع التطورات الأخيرة، إذ يمكن الانتباه إلى عدم ارتياح جهات إقليمية ودولية محسوبة على المعارضة إلى تقدمها، على الأقل من خلال تعاطي وسائل إعلام تابعة لها مع الحدث.
لكن الأهم كما هو معلوم الموقف الأميركي الذي لا تُعرف حقيقته وأبعاده حتى الآن، ويصح القول بأنه خذل حلفاء النظام، فقط لأنه لم يتدخل بفعالية من أجل منع تقدم فصائل جيش الفتح، ولجم داعميه. فحلفاء النظام من حزب الله وصولاً إلى موسكو كانوا مرتاحين تماماً إلى الموقف الأمريكي الصديق، ورغم عدم إعلانهم ذلك إلا أن عتبهم على إدارة أوباما يكاد ينطق على النحو الذي نطق به معارضون سوريون من قبل. وإذا كانت طرق إمداد جيش الفتح تمر من تركيا حصراً، فهذا لا يعني انفراد الأخيرة بقرار المعركة بالتعارض تماماً مع قرار إدارة أوباما، ولا يعني انتهاء التنسيق كلياً بين مخابرات البلدين في هذا الملف الحساس على رغم الخلافات بينهما التي زادت بعد محاولة الانقلاب.
لنتذكر أن جبهة النصرة أعلنت فك ارتباطها بالقاعدة عشية معركة حلب، ولم يكن هذا ليحدث لولا وجود تنسيق بين جهتين إقليميتين لمواكبة المعركة، ومن المحتمل عدم وجود فيتو أميركي عليه، مع استبعاد وجود تغطية أميركية لاستمرار المعركة بحيث تقلب موازين القوى. قد تستغل إدارة أوباما خسارة النظام وحلفائه، بما تعنيه من طعنة لقدرة الروس على الحسم، من أجل تحسين موقعها في التفاهم مع بوتين، أما المضي أبعد فمفاده انتهاء التفاهم الأميركي الروسي وفتح المواجهة على أفق لا يبدو الطرفان راغبين فيه الآن.
هذه المقدمات ضرورية للتفكير في المراحل التالية من معركة حلب، بعد إعلان غرفة فتح حلب العزم على السيطرة على المدينة كلها. فخارج الحماس لإيقاع الخسارة بالنظام، بخاصة بعد ارتفاع المعنويات إثر فك الحصار، لا يصح القول بأن معركة فك الحصار لها نفس حسابات المعركة القادمة، لأن السيطرة على حلب بكاملها ستؤدي لاحقاً إلى إعادة السيطرة على ريفها، ويصبح الشمال بمدينتي حلب وإدلب خارجاً كلياً من حسابات النظام، باستثناء قدرة الطيران الروسي وقدرة براميل بشار على إيقاع الأذى. مثل هذه المعركة ما لم تكن مغطّاة سياسياً على المستوى الدولي والإقليمي يصعب تصور نجاحها، فخط الإمدادات لن يكون على سبيل المثال خارج مباحثات بوتين وأردوغان اليوم "الثلاثاء"، ولنا أن نتذكر انسحاب فصائل تقاتل الآن في حلب من مدينة كسب الساحلية، قبل نحو سنتين، بالتزامن مع زيارة "ناجحة" لأردوغان إلى طهران.
العوامل الداخلية أيضاً يجب أخذها بالحسبان مع الشروع بمعركة توصف بأنها معركة تحرير، فاستغاثات الفصائل المقاتلة في حلب عشية الحصار لا تزال ماثلة في الأذهان من أجل الضغط على النظام في جبهات أخرى، مع أذن صماء من بقية الجبهات. فلا جبهة الغوطة تحركت، أو هي قادرة على التحرك، ولا جبهة حوران تحديداً لبت الاستغاثة، أو كانت قادرة على تلبيتها. بمعنى أوضح، لا يمكن تحريك كافة الجبهات إلا بتنسيق دولي إقليمي يجمع كل اللاعبين، ويفتح جميع خطوط الإمداد. وبعبارة أخرى، لسنا الآن، ولم نكن بدءاً من خريف عام 2012، إزاء حرب تحرير متكاملة، ومهما كانت الرغبات الدفينة لقادة الفصائل فهي محكومة بمموليها وخطوط إمدادها، مثلما هي محكومة على نحو أشد بمعادلة منع الحسم العسكري. هزيمة النظام في حلب كلها، على أهميتها المعنوية، لا تطال ثقله الأقوى في دمشق، وطالما بقيت الجبهات القريبة من دمشق مُحيَّدة فالقرار الدولي مستمر بعدم السماح بإسقاط النظام.
أما ما يخص حلب نفسها، فليس سراً أن تجربة التحرير لم تقدّم نموذجاً إيجابياً، باستثناء التخلص من حكم النظام. لم تقدّم نموذجاً جيداً على صعيد الإدارة الذاتية، ولا على صعيد القضاء والأمن، ولم تخلُ من الثغرات التي أتاحت بروز أمراء حرب مثّلتها فصائل لم تحترم الأملاك الخاصة، مثلما لم تحترم حياة المدنيين تحت سيطرة النظام فكان سلاحها بالأحرى لتشويه سمعة الفصائل الأخرى ككل. لهذه الأسباب مجتمعة هناك تيار لا يُستهان به من الخاضعين لسيطرة النظام لا يود تكرار ما حدث في الأحياء الشرقية من المدينة، وبالتأكيد لا يريد فوق ذلك التعرض للغارات الانتقامية من الطيران الروسي وطيران النظام.
وإذا تجاوزنا التيار الذي يتعاطى وفق مبدأ السلامة الشخصية فحسب، سيكون واجباً التفكير في مصير المدنيين الخاضعين لسيطرة النظام، لأن مسؤولية الأخير عنهم ستنتهي حينها، وتنتقل إلى الجهة التي لن يكفيها القول بأنها حررتهم. مرة أخرى، الأوضاع الحالية لا تشبه تلك التي كانت عندما حُررت الأحياء الشرقية من المدينة خريف عام 2012، على الأقل كان السكان وقتها وحتى أشهر قريبة انقضت يملكون خيار النزوح من تحت القصف، أما الآن فالحدود التركية مغلقة تماماً في وجه النازحين، ودونها مناطق باتت تخضع للنظام وحلفائه من وحدات الحماية الكردية. وإذا نال جيش الفتح ترحيباً شبه عام على أرضية فك الحصار وتخليص الأهالي من شبح الإبادة تجويعاً، فالعامل الإنساني نفسه يتطلب أخذ حياة سكان حلب الغربية في الحسبان، وعدم تعريضهم لأخطار جسيمة نابعة من انتصارات لا تملك أفقاً سياسياً محسوباً.
لقد قدّمت معركة فك الحصار درساً عسكرياً بليغاً، تلقاه النظام وحلفاؤها في المقام الأول، لكنه أيضاً يخيف العديد من القوى التي تخشى خروج الوضع عن السيطرة. لذا، لن يكون ما بعد فك الحصار مثل ما قبله، وإذا رجحت كفة الشجاعة أولاً، فالحكمة هي المطلوبة تالياً.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها