رغم أن فترة الانتداب الفرنسي في سوريا لم تتعدّ 25 عاماً، إلا أن الدراما السورية استهلكت هذه الحقبة من التاريخ بعدد كبير جداً من المسلسلات؛ مُعظمها يُصنّف في خانة "البيئة الشامية"، التي تتمحور حكاياتها حول الحارات الدمشقية القديمة، وشخصياتها البسيطة التي تحوّلت الى أنماط يسهل التنبؤ بتصرفاتها حتى لو اختلفت أسماؤها وأشكالها وممثليها في المسلسلات المتعاقبة.
ساهمت تلك الأعمال في تكوين صورة عن دمشق خلال النصف الأول من القرن العشرين، كمدينة منغلقة، متخلّفة عن ركب الحضارة، وبعيدة كل البعد من خريطة العالم السياسية والاقتصادية والتكنولوجية.
ففي ذاك الزمن الذي شهدت فيه البشرية اختراعات غيّرت وجه العالم، لا نرى في حارات دمشق سوى رجال من ذوي الشوارب العريضة وهم يتصارعون بالشبريات حول السيادة في حارات بلد محتل أصلاً، ولا نسمع عن حركات المقاومة ضد المستعمر سوى ما يتعلق ببطولات القهوجي والخضرجي والفوال الذين يقودون حركات ثورية مثيرة للضحك في غوطة الشام، ولا نُشاهد أي أثر للتطور الحضاري.
ورغم أن البلد، نقلت إليه فرنسا الكثير عبر عملية المثاقفة الناجمة عن الاحتكاك بين السوريين والفرنسيين في العصر الكولونيالي، ظل "الدومري" هو المسؤول عن إنارة الحارات بمصابيح الكاز حتى زمن الحرب العالمية الثانية في مسلسلات البيئة الشامية، خلافاً لمعطيات تاريخية تشير الى أن الكهرباء دخلت إلى دمشق سنة 1907. كما أن الأحصنة التي تجر العربات ظلتن في المسلسلات، وسيلة النقل الوحيدة في ذلك الزمن، رغم أن الترامواي دخل دمشق سنة 1904.
ولم تخرج كاميرات مسلسلات البيئة الشامية من الحارة الدمشقية سوى إلى بساتين الغوطة، رغم وجود أسواق عريقة وكبيرة في دمشق، مثل سوق الحميدية ومدحت باشا، ورغم وجود الكثير من المناطق الحضرية الحديثة التي بُنيت في بداية القرن العشرين على الطراز الحديث، في منطقة المرجة وعلى أطراف أسوار دمشق.
انقلاب المشهدوبعد أكثر من 30 سنة على "هراء" البيئة الشامية، جاء أخيراً مسلسل "تاج" ليضع حداً للمهزلة التاريخية التي رسختها الدراما في عقول المشاهدين. ففي المسلسل، تظهر دمشق بصورة مختلفة كلياً، تتسم بأنها منطقية وقابلة للتصديق، وأحداث المسلسل لا تجري بشكل مُنفصل عن التاريخ السياسي والاجتماعي الموثّق لدمشق والعالم حينها، بل تتصل بها في مشاهد ملحمية تزيد من جمالية المسلسل وتكسبه بعداً توثيقياً، وإن كان التوثيق ليس غرض العمل، ورغم أن المسلسل يبدأ بالإشارة إلى أن بعض الشخصيات والأحداث من وحي الخيال.
نشاهد في المسلسل، التكتلات السياسية المحابية لفرنسا والمتمردة عليها للمرة الأولى، والتمرد هنا لا يُشبه عنتريات "باب الحارة" وأشباهها، بل هو فعل سياسي منطقي، قائم على قراءة أصحابه لتطور العلاقات الدولية، ومبني على اتصالات بالجهات الخارجية، كالإنكليز والألمان، من دون أن يكون التواصل مع الآخرين في حد ذاته يُمثل خيانة لمفهوم الوطنية.
فالأفكار التي تُطرح في مسلسل "تاج" عبر حواراته، تنطوي على وعي، كان مفقوداً طوال الوقت، لمعنى الدولة ومؤسساتها والشرعية الدولية والقانون، فلم تعد دمشق تسير وفقاً لقوانين وأعراف زعماء الحارات، المفصومة عن الواقع والتاريخ وأي منطق. وفي هذه المعادلة المعقدة، تظهر الصحافة السورية القديمة للمرة الأولى في الدراما، ويظهر دور الصحافة في الحرب ضد الفرنسيين، التي تضبطها قوانين وضعها الفرنسيون بأنفسهم.
وقد يكون "تاج"، هو المسلسل الأول الذي يرسم العلاقة بين الاحتلال والمُحتَل بشكل منطقي، لغوياً وفكرياً وحربياً؛ فرغم أن استخدام تقنية الذكاء الصناعي أثّر سلباً في مَشاهد الرئيس السوري الأسبق شكري القوتلي، إلا أن مشاهده ترسم صورة معقولة عن شكل حكومة الدولة السورية تحت الانتداب، وآليات التواصل بين السوريين والفرنسيين، فلم تعد كلمة أبو حاتم أو أبو عصام ترعب الفرنسيين، ولم تعد كلمات من قبيل "سكروا باب الحارة" تعبّر عن تمدد سلطة الاحتلال أو اندحارها؛ فالمنطق انتصر في "تاج" أخيراً على عقود من التخلف الدرامي.
ومع أن إخراج سامر البرقاوي هو بطل العمل، وتعدّ الرؤية البصرية هي الأغنى وأكثر عناصر المسلسل جمالاً وجذباً للمتابعين، لكن النص أيضاً الذي كتبه عمر أبو سعدا، يستحق الإشادة، إذ عرف فيه جيداً كيف يربط ما بين الحكايات التاريخية العامة كقصف دمشق وسجن القلعة والبرلمان ووعد شارل ديغول بحل الانتداب الفرنسي ودور الإنكليز بذلك.
ويربط النص أيضاً بين الحكايات الشخصية المشوقة، والمبنية بالأصل على مثلث علاقة حب، تربط "تاج" بـ"بوران" و"رياض"، والتي تشهد ذروات عاطفية مؤثرة لا تقل جمالاً وجاذبيةً عن المشهد العام.
أما الطرف الثالث الحاسم في نجاح "تاج"، والى جانب بسام كوسا، فهو الممثل تيم حسن، الذي بدا أنه وصل إلى ذروة نجوميته مع سلسلة "الهيبة" والذي سخّر نجوميته بعد انتهاء السلسلة لخدمة مشروع درامي أكثر جودة، ليكون بمسلسلي "الزند" و"تاج" قد ساهم بوضع الدراما السورية على سكة معقولة بعد سنوات من الضياع.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها