مُعقّدة ومتعدّدة الأوجه... هاتان هما الصفتان الأبرز لردود أفعال الشعوب الخارجة من تجارب قاسية وصدمات. غالباً ما تبدأ تلك الردود بإعادة البناء والتأمّل والمصالحة، ثمّ التكيّف مع الظروف الجديدة. فماذا عن الحالة اللبنانيّة؟ تلك التي شهدت حرباً علنيّة وأخرى كامنة، ومؤخّراً كارثة شبه نوويّة ووباءً وانهياراً ماليّاً واقتصاديّاً؟
إن حاولنا فهم بعض السلوكيّات الاجتماعيّة والنفسيّة التي برزت مؤخّراً في لبنان من خلال مظاهر الاحتفال والبذخ والإنفاق، قد نتوهّم بأنّ اللبنانيين قفزوا مباشرةً إلى مرحلة التكيّف مع الواقع الجديد. فهل فعلوا هذا وحدهم؟ من دون مساعدة المتعهّد الأكبر لبلادهم؟ الذي يستثمر في حروبهم وفترات سِلمهم، وفي صدماتهم وما بعدها؟ هل يمكن أن يُولَم إنفاقٌ وأرباح خارج مائدة السلطة المحتكِرة؟
غاتسبي لبنان العظيم
التكيّف، لبنانيّاً، يعني أوّلاً أن تنفق وفق الأسعار الجديدة وسعر الصرف الباهظ، وأن تنال قسطاً من الترفيه المُكلف. عقليّة النظام اللبنانيّ التي تدير شؤون البلاد ودورتها الاقتصاديّة (إنتاج-تسويق-تصريف) تُذهلنا بمرونتها وشبابها المتجدّد! هي خير مَن يعرف ما يحتاج إليه المواطن/المستهلك الآن، فبعد الغضب والاكتئاب والإحباط، دخل مرحلة الإنكار والانفصال عن الواقع والتبرّؤ من شبهة الإفلاس. ما يحتاجه، بصوت غاتسبي العظيم ربما، هو أمر واحد: "حفلة ضخمة!"
لكنّ المنظّم لن يدعو الناس بالمجّان، كما فعل غاتسبي العظيم، بل سيجعل الجمهور يدفع بسخاء، ويُخرج ما يدّخره للشهور المقبلة، وما ادّخره في الأسابيع السابقة. مهرجان فنّي مجّانيّ، مهما كان مبهرجاً وصاخباً، لن يحقّق الغرض.
وكما في أيّ صفقة أخرى، في أيّ مشروع استثماريّ، يتقاضى أهل السلطة حصّة الأسد، ويتركون البقايا للضباع والغربان. لذا فإنّ الأرباح المهولة التي سمعنا عنها، لم تذهب كما تمنّى الجمهور لنجومه الأعزّاء، بل لمن اعتاد سلبه حقوقه، من ودائع إلى خدمات حيويّة وكلّ أنواع الثروات.
تحت سيطرة النظام
علميّاً، يُعدّ أيّ حدث ترفيهيّ في مجتمع تعرّض لتروما قاسية، استجابةً صحّيّة، بل إنّ "اضطرابات ما بعد الصدمات" بذاتها تُعدّ ردود أفعال حميدة للبقاء على قيد الحياة.
لا يُفترض لمظاهر الاحتفال والابتهاج أن تزعج الرأي العامّ. لكنّ الأمر جرح الكثير من متضرّري الأزمة وضحاياها وأثار سخطهم، لأنّ أقلّ بطاقة حفلة تفوق متوسّط دخل الفرد المستجدّ وتصل أغلاها إلى آلاف الدولارات، أي أكثر من تعويض نهاية خدمة فرد من الطبقة المتوسّطة التي سقطت تحت خطّ الفقر. للمحتفلين الحقّ في الاحتفال والإنفاق، وللمعترضين الحقّ في الاعتراض. لكن، في النهاية، ثمّة من حقّق أرباحاً ماليّة وسياسيّة، وأثبت أنّ شعبه ليس منهاراً، وأنّ للفرح مكاناً والأمور تحت سيطرته.
أمنٌ في ساحات التمرّد والثورة
حشدت الدولة اللبنانية إمكانات أجهزتها لتأمين حفلات وسط بيروت وسلامة الجمهور وتنظيم السير...
في "حديقة الشهيد رفيق الحريري" أُقيمت الحفلة الأخيرة لفعاليات الموسم السياحي الكرنفالي. وسط بيروت، حيث، قبل ثلاثة عقود ونيّف ارتدى الثلاثيّ الرئاسي "الهراوي - برّي - الحريري" الأبيض ومثلهم فيروز احتفالاً باتّفاق الطائف وإنهاء الحرب. قرب نقاط اعتصام أهالي شهداء تفجير مرفأ بيروت، ومكان التفجير نفسه، وأشلاء ضحاياه وحطام حجره، وقرب ساحات الثورة على النظام والهتاف بسقوطه وشتم رموزه. هنا وقف النظام قبل أيّام ليقوم بعمله تجاه "أبنائه"، وينظّم لهم حفلة أرادها بمثابة إعلان مصالحة معهم.
تأمين ساحات الحفلات هذا الصيف لم تنعم به أيّ ساحة مظاهرة أو اعتصام لنَيل مظلوم أدنى حقوقه أو حتّى الهتاف بها.
لماذا بدت السلطات اللبنانيّة بكلّ هذا التسامح والحنان؟ هل لأنّها تريد لشعبها أن يفرح ويُفرغ غضبه وتوتّره، أو بالأدقّ ينساهما؟ أم لأنّها تعرف أنّ هذه بضاعة يتهافت على شرائها من دون سقف. فكلما ارتفع العرض، ارتفع الطلب، وفق تركيبة الشخصيّة الشرائيّة اللبنانيّة المعاصرة بغالبيّتها.
شبح إنسان مات بحسرته
لم يقتصر الأمر على التنظيم والأمن. سهّلت السلطات دخول مغنٍّ، رغم الدعوى القضائيّة التي ترفعها بحقّه أسرة متعهّد حفلات لبنانيّ، سبق أن نظّم حفلة له في بيروت، لكنّ المغنّي انسحب منه، وكبّد المتعهّد خسائر جمّة. جدير بالذكر أنّ المتعهّد اعتلّ صحّياً بعد سنوات من الدعاوى والتفاوض، حتّى افترسته كورونا، وقضى نحبه.
لافت هنا تدخّل محامي أحد السياسيّين النافذين في لبنان للوصول إلى تسوية مع أهل الدعوى وإسقاطها في صفقة مخادعة جُمّدت بعد فرار المغنّي على وجه السرعة من بيروت إثر انتهاء الحفلة الأخيرة، وكأنّه بالفعل يهرب من شبح ما. شبح إنسان مات بحسرته!
لأجل الحفلة نفسها، وُزّع تعهّد مُهين على الصحافيّين الراغبين بالتغطية وأُخذت تواقيعهم على شروط تخالف جوهر رسالتهم ومهنتهم! تستّرت وزارة الإعلام على فضيحة تقيّد حرّية رأي الصحافيين وتسمح بملاحقتهم القانونيّة إن خالفوا شروط مغنٍّ وأغضبوه أو نشروا صورة تُظهِر صلعته!
تبييض البيت
حكى لي صديق مصريّ لمّاح، قصّة معبّرة من بلدته الريفيّة. ففيها أسرة يعرفها تعمل في التجارة وسط مجتمع الفلاحين، وتنعم بمستوى معيشي أفضل منهم. لكنّها تلجأ، كلّما ساءت أحوالها المادّية، إلى "تبييض بيتها"، أي إلى طلائه من الخارج، لئلا يحدس أحد بأزمتها الماليّة.
لا نقول إن منظّمي الحفلة ومرتاديها يعرفون تلك القصّة الريفية، لكنّها الغريزة البشرية نفسها، التي تدفع المأزوم إلى فعل أيّ شيء لردّ شبهة المعاناة الماليّة، تحديداً إن كان يتّخذ البذخ قاعدةً، ويلجأ إلى "تبييض بيته" كلما تصدّع أمانه الماليّ.
الترفّع والإنكار من أبرز اضطرابات التروما. يترفّع قسم كبير من اللبنانيين على شعورهم بالمهانة والكآبة. يصرّون أنّ الأزمات الأخيرة لم تُتلف عقليّتهم الميّالة للإنفاق والترفيه الباهظ، ويفهم لاوعيهم المقولة الأوروبيّة "عليك أن تدفع لعازف الناي" you have to pay the piper، وإلّا فسيملأ حياتهم بالجرذان مجدّداً، أو يحرمهم من مستقبلهم للأبد، فيدفعون للزَّمار بالسخاء الذي يؤمنون أنّ العالم يتوقّعه منهم.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها