"كي لا ننسى"، قلنا جميعاً في كل ذكرى للحرب الأهلية اللبنانية، كل 13 نيسان، منذ حلول ما يُسمى بسنوات السِّلم بعد 15 عاماً على نيسان 1975. ولم نفعل، قبل ولادة الشعار وبعده. لم ننسَ. ظلّت حربنا معنا. لا في خلفية الذاكرة، نشطة كانت أو ميتة، بل في حاضرنا وراهننا. وهذه ليست فضيلة. لا لعنةً نجدها تنصبّ على من يوقظها، لأنها لا تنام. أرق مديد ينتابنا، نحن مرضى به. أن لا ننسى، ليس إنجازاً ولا مضاداً حيوياً لتكرار احترابنا وعنفنا وصراعاتنا الدامية. لم ننسَ، فاستبقَينا الحرب. إما على رفٍّ قريب تطاوله أيدينا عند الحاجة. وإما بين عيوننا، فِعلاً، وممارسةً لما نسميه -زوراً- السياسة في إدارة علاقاتنا. استبقيناها عصَباً لأصابع كلّ من فئاتنا الممسكة بأطراف قميص السلطة، أو ما نخاله السلطة والحُكم. حُكم الأمر بالواقع والنهي عن النسيان.
النسيان ليس نقيصة، ولا خطيئة عقوبتها عَوْد على بدء. بل مهارة، علاجية إن أجَدناها. النسيان الجميل، هَضمٌ روحي ونفسي. الإيديولوجيات وأساطير الجماعات تُهضَم أيضاً، مثل الأطعمة في البطون. الشعوب، الشعوب اللبنانية، إن نجحت في نسيان كيف أشعلت حرباً واحترقت بها، فإنها تكون تُبيّت نبذها المفترض لتلك تجربة، في لا وعيها. وذلك لا يعني فقدانها أو تحييدها. اللاوعي يصبح مسافة آمنة من معاودة الانخراط في الجحيم، متراس في مواجهة التجربة السابقة، لعزلها في مكانها، في الماضي، ولجعل التجاربَ اللاحقة مستقبلاً غير محقق. لكن اللبنانيين أبقوا على شعلة الحرب في فتيل محميّ بكوب زجاجي مقلوب، يدرأ الهواء والأنفاس فيما هو شفاف وهشّ. بحُسن نوايا "تنذكر تـ..ما تنعاد"، أبقوها، أو بخبث "يمكننا أن نعيدها متى شئنا.. فلا تضطرونا"، ودائماً بعناد "هكذا كنا، هذا نحن، ويمكننا أن نستأنف من حيث توقفنا للاستراحة". ولهب الفتيل يستعر أو يخفت، وفقاً لتجاذبات لم تنطفئ يوماً.
خطف المسؤول في "القوات اللبنانية"، باسكال سليمان، ثم اكتشاف مقتله، أعاد رسم المشهد للمرة العاشرة، المئة، الألف... لكنها جبيل بدلاً من عين الرمانة. "وحدة الساحات" مكان "اتفاق القاهرة". سوريون أبرياء محلّ فلسطينيين أبرياء. ومذنبون لبنانيون وغير لبنانيين فوق الردع والمساءلة والعقاب، من الأمس إلى الغد. انتقل السلاح في الداخل من مقاومة إلى مقاومة، والحدود ما زالت مفرغة من معناها إلا في خريطة مهلهلة غير متفق عليها. جيش آنذاك، وجيش اليوم. ميليشيات آنذاك، وميليشيات اليوم. دولة آنذاك، ولادولة اليوم. مسلّحو آنذاك، ومسلّحو اليوم يُلهمون المزيد من طالبي التسلّح.
المشهد لم يضمحل أصلاً، لم يُنسَ، لم يُحَل إلى التقاعد. قبله اغتيالات بالعشرات منذ مرحلة تقاسم مغانم الحرب، والتي طوّبناها – تجاوزاً – كسنوات سِلم، وصولاً إلى انفجار مرفأ بيروت واللاعدالة التي تلته. بل واغتيال حقيقي ومعنوي ومهني لكل مَن أشعل مصباحاً في عتمة تجهيل الفاعلين، بالكلمة، بالصورة، بالإعلام، بالخطاب السياسي، بالتظاهرات، بالمعلومات والشهادات، بالقانون والقضاء... وها هي اللوحة ترتسم مجدداً. مجيدةً، لعينةً، مُكلّلة بالكذبة الذهبية نفسها التي لا تفنى: ضد الفتنة، ضد الفوضى. والحقيقة نفسها كامنة في الكذبة: الموت لمَن يعارضنا.
ما عادت هوية القاتل، أو أسباب القتل، هي المعيار. أياً كانت الخلفيات المفضية إلى ركاكة تقارير الأجهزة الأمنية والعسكرية، أياً كانت موجبات الغموض... الاستعداد الأهلي، عشية 13 نيسان 2024، لاجتراح عين الرمانة في جبيل أو أي منطقة تماس أخرى، على أهبّته، لا ينقصه إلا من يذخّره ويقص شريط افتتاحه. لا تنقصه الظروف الموضوعية، مثلما لا تنقصه الذاكرة المثقلة بالمظلوميات والآلام، بالاستقواء والهيمنة والتشبيح.
ليته النسيان في نيسان. نسيان نيسان. لكن اللبنانيين لا يملكون هذا الترف، محرومون من هذه النعمة، طالما أنهم ملعونون بأنفسهم... وبالعالم المتصاغر من حولهم إلى حجم إقليم.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها