في 13 نيسان 1975، كان عمرى سنة وبضعة أسابيع بحسب الميلاد الحقيقي، أو سنة وبضعة أيام بحسب الميلاد الرسمي في تذكرة الهوية. روت والدتي أنها كانت في بيروت لزيارة أحد الأقرباء في دار الأيتام في الطريق الجديدة، وكنت على ذراعها لا أعرف شيئاً في الحياة حين علقتْ في زحمة السير في ذلك اليوم المشؤوم الذي تكثر معانيه، وكانت في سيارة الأجرة الآتية من البقاع، تسلك طريق الشياح باتجاه البربير على وقع صوت سيارات الإسعاف والاستنفارات الأمنية. قرب مستشفى المقاصد، قيل لها إن هجوماً حصل على البوسطة الشهيرة، ونقلوا عشرات القتلى والجرحى.
في شكل من الأشكال، وبلا مبالغات أدبية واستعارات لفظية، وُلدت أو وُلد جيلي وبدأت الحرب، انفجرت في وجوهنا. أنا، ربّما لم أعش الحرب من قرب بحكم سكني في منطقة بعيدة عن العاصمة، ولم أشارك فيها. لم أهرب منها، لم أر جثثها على الأرصفة، لم أر كلابها الشاردة بين المباني المهجورة، لكني عشت شظاياها المميته وحسراتها على أبشع وجه. تكفي مشاهد جنازات القتلى لكي يعرف المرء طعم الحرب وما تفعله. تكفي حكايات المقاتلين وسردياتهم لكي يعلن تشاؤمه المديد.
في زمن السلم البارد بعد اتفاق الطائف، الذي كان مربوطاً بسؤال هل انتهت الحرب؟ أو كيف نؤرخ للحرب؟ قرأت كثيراً عن المتاريس والغيتوات والمشاريع والأحلام التدميرية والنظريات، اليمينية واليسارية. بدا لي أن كل القراءات للتسلية، والجدل لا جدوى منه. أتى العفو العام بعد الحرب لكي يجعل كل شيء بلا محاسبة، وبالتالي باتت القراءة والحوارات عن الحرب كلها من باب تزجية الوقت. والمفارقة أن المشاركين في الحرب كلهم كانوا يمارسون الإجرام والقتل والإغتيال والخطف على الهوية، باسم الدفاع عن قضية يعتبرونها "محقة"، مرة باسم الدفاع عن عروبة لبنان، ومرة باسم الدفاع عن لبنانية لبنان، ومرات باسم الدفاع عن سورية لبنان. لا نعرف أي لبنان يريدون.
الكل يزعم النقاء والعفة في لبنان.
أياً كان يوم انطلاق الحرب، سواء إتفاق القاهرة 1969 أم ربيع 1973، أم 13 نيسان أم اغتيال معروف سعد، أحسب أن حياتنا في لبنان، ما زالت عالقة هناك في بوسطة الحرب. في "الهوليداي إن" المهجور، وفي الخط الفاصل بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية، وفي كآبة برج المر.
عدا عن أن الحرب تسيطر على كينونتنا وحياتنا ولغتنا ومنابرنا وسلوكنا، يحكمنا قادة الحرب ويحملون مواصفات مقدّسة، وينتقون من ذاكرة الحرب ما يناسب هواهم وأكاذيبهم، يزعمون ممارسة النقد الذاتي وفي الوقت نفسه يقدسون الفعل الذاتي.
عشنا السلام الهش في ظل القبضة الأمنية السورية حتى العام 2005، دخلنا في أتون الاغتيالات السياسية والتفجيرات والأزمات والأيام الأشد هولاً من الحرب، من اغتيال رفيق الحريري، إلى تفجير مرفأ بيروت، من انهيار الاقتصاد الى سرقة الودائع، مئات التوترات الأمنية وعمليات الخطف. كل شيء يشير إلى أن الحرب مستأنفة، تبدلت طرائقها والنتيجة واحدة.
في نظام حزب الله، لسنا في ظل الحرب فحسب، بل في ظل نظام لا مهنة له إلا الحرب، والانتقال من حرب إلى حرب.
الآن في الذكرى الـ49 للحرب، يعيش لبنان على وقع اسطوانة "قواعد الاشتباك" والاغتيالات، والسبّابة المرفوعة والمسيرات المتفجرة والجعير، وسؤال متى تبدأ الحرب الشاملة انطلاقاً من الجنوب؟ هل ينجو لبنان من الحرب؟
سقط أكثر من 300 قتيل ودمرت آلاف البيوت في الجنوب، وفُتك بالاقتصاد والمؤسسات، والبعض يبشرنا بالأسوأ.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها