ينسجم الحديث الرائج حالياً في سوريا عن هيكلة الأجهزة الأمنية، مع حديث أسبق طُرحت فيه أفكار عربية عن عملية إعادة تأهيل للنظام، تستدعي منه تغييرات ملفتة، تُغيّر قليلاً من ملامحه القاتمة والبشعة أمام الآخرين!
غير أن السؤال الذي لا بد من طرحه، بناء على ظهور مؤشرات عما جرى ويجري من تحولات، يقول: هل يصنع الأسد شيئاً يستحق أن ينظر السوريون إليه وفيه؟
يترتب على طلب الاستفهام هذا، معاودة التفكير في الصورة التي ستتغير لنظام قمعي إجرامي، أباد مئات الآلاف من مواطنيه، بغرض بقاء رأسه على كرسي الحكم؟!
وهل يستطيع أن يبدأ هو بالتغيير، من خلال قلع مداميك ثقيلة، تحافظ على وجوده كالأجهزة الأمنية؟
من الناحية النظرية، أو لنقل من خلال أحاديث تجري فوق الغيم، يمكن افتراض الكثير من التوقعات! لكن على الأرض، لا مكان للتفاؤل في السياق الواقعي، إذ لا يبدو أنّ ثمّة إنفراجة محتملة تبدأ من النظام ذاته، لا على الصعيد الأمني ولا على أي صعيد. إذ مرّت، وعلى سبيل المثال لا الحصر، محادثات الجولة الجديدة لأستانة حيث يجتمع مع الدول الضامنة، ومن خلفها وفد معارض، كغيرها من الجلسات السابقة، من دون معطيات جديدة، بل بدا فيها الأسد غير مهتم، ولا مبال، لا باللجنة الدستورية، ولا بملف المعتقلين، وكأنه يقول للجميع أنه باقٍ، وأن نظامه ذاته، سيستمر كما هو، خلا بعض التزويقات هنا أو هناك.
لكن الجديد المطروح حالياً من قبل بعض إداراته، لا يقترب مطلقاً من ثقافة قمع رهيب، عششت في عقول السوريين طيلة 61 عاماً من الحكم البعثي، وصارت جزءاً من تكوينهم الروحي والنفسي، لا يستطيعون أن يغادروها، حتى وإن خرجوا من بلادهم إلى أرض الله الواسعة. بل إنه يقترب من المجتمع ذاته، ليطرح فرضية ذات معنى ومغزى، تؤهل النظام ليكون هو العلاج، بدلاً من التعاطي معه على أنه هو الداء.
رئيس مجلس وزراء الأسد، حسين عرنوس، طرح قبل أيام فكرة، مرت سريعاً في السياق، تقول بأن للمجتمع حصة وازنة من المسؤولية عن الفساد، فادعى وبحسب ما نقلته وسائل إعلام رسمية، بأن "مكافحة الفساد مسؤولية مجتمعية وثقافية، ومع ذلك تتحمل الحكومة مسؤولياتها الكاملة تجاه هذا الملف، بحيث تتكفل مؤسسات الدولة المعنية من قضائية ورقابية وتفتيشية مسؤولية رصد حالات الخلل والفساد والتعامل معها بكل صرامة"! وبناءً على هذا التصريح فإن على السوريين أن يشعروا بالامتنان تجاه الحكومة، التي تتكفل بإصلاح فسادهم، وتقوم بعملها في الوقت الذي لا يفعلون فيه أي شيء من أجل ذلك.
لم يُشر عرنوس إلى السبل الواجبة من أجل معالجة المشكلة الثقافية الخاصة بالفساد، ويبدو مدركاً أنه لا توجد إمكانية للتعاطي مع هذا الملف الشائك، بعدما بات الفساد "ضرورة" بحسب تصريح آخر لرئيس اتحاد نقابات العمال، حين قال قبل أيام "إن الفساد أصبح ضرورة بسبب عدم استطاعة الموظفين الحصول على حاجاتهم، إذ تحولت الرواتب في البلاد إلى إعانات".
منطقياً، ومن خلال نوابض التفكير العميقة لدى رجالات الأسد، فإن المشكلة القائمة حالياً هي ثقافية بجدارة، ليتركز الاهتمام على الطريقة المثلى لإقناع السوريين بألا يكونوا فاسدين!
وبالتتابع فإنه من المستحيل أيضاً في ظل الظروف الراهنة على الأقل، إلغاء الأجهزة الأمنية، أو تغيير وضعها، أو طريقة جلوسها على المجتمع كله، وذلك لأن الشعب الفاسد هو ذاته من يتسبب بالمشاكل لنفسه. وبدلاً من أن يحمد ويشكر الأسد المتفرغ من أجل قيادته وإيصاله إلى بر الأمان، خرج يطالب بإسقاطه في العام 2011، وقام بالتسلح وصار إرهابياً، ما أدى في النهاية إلى وصول الأحوال إلى ما هي عليه حالياً!
شعبٌ كهذا هل يستحق أن يغير النظام تكوينه من أجله؟
تبدو الفكرة وعلى ما تحتويه من تهكم جدية للحظة ما، وهي بالمناسبة حقيقية، كان يمكن أن تسمعها في اجتماعات رسمية جرت لمناقشة أحداث شهري آذار ونيسان في السنة الأولى للثورة، وتعكس قناعة معلنة وقائمة لدى طائفة النظام ذاتها، أي مجموع أولئك المستفيدين منه ومن استمراريته، وعدا عن كون المجتمع فاسداً بتكوينه الأصلي، ورجعياً أيضاً، يعادي الرفاق التقدميين من بعثيين وشيوعيين وقوميين وناصريين، ويميل إلى الإسلاميين، فإن سؤالاً يأتي بالتواتر يقول: وهل يحتاج السوريون الديموقراطية والحرية؟! أي حرية هذه التي يريدونها؟ ألا تذكركم الجملة الأخيرة بشيء شاهدتموه من قبل؟ ألا تتذكرون مشهد جندي الفرقة الرابعة الذي يدوس المعتقل في الشارع سائلاً إياه: "شو الحرية اللي بدكم إياها"؟
بدورنا، نستطيع أن نكرر ظنون الجماعة الأسدية بأن المشكلة هي فعلاً ثقافية، ولكن مع الأخذ بعين الاعتبار أننا نقف في جبهة مضادة ترى بأن ثقافة المجتمع لا تتبع أهواء الأنظمة السياسية، لكنها لا تكون فاسدة بهذا القدر إلا إن تم تدمير حيوات الناس، وتحويلهم إلى أقوام هائمة تجول بين السبل المتاحة تبحث عن خلاص.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها