يتداخل في غالبية نصوص الشاوي، الذاتي مع ما يولده من تداعيات مفتوحة تصبح في بعض الأحيان هي المتن الذي يحمل الفكرة، وتلك خصوصية يتميز بها هذا المثقف، الذي له حضور خاص في الوسط الثقافي المغربي منذ التسعينيات بعدمت خرج من تجربة طويلة في السجن دامت حوالي عشرين عاماً. وبدلاً من أن يهزمه السجن، فإنه ظل في خضم التجربة يتقدّم ويتراجع، لكنه أعطى الكتابة جل وقته، وفي كل ما كتبه حتى الآن تحضر التجربة الذاتية بوصفها رصيداً إنسانياً ثرياً. السجن بوصفه احتجازاً وعقاباً. أبواب تقفل وأخرى تفتح، ويولد شعور في الذات تتفتح على نحو غريب فيغدو السجن فضاء رحباً للتأمّل بلا حدود وبحُرية ومجابهة للذات. وحين يتحدث الشاوي عن السيرة الذاتية التي تأخذ مساحة أساسية في أعماله، فهو يعتبر أنها باتت جنساً أدبياً مذموماً في البلد الذي ظهرت فيه فرنسا، ويتعامل معها بحذر لأنها تبقى محركاً للالتباس الذي يضعها في مصاف التعبير الأقصى عن الألم الفردي بتطوره وتجدده.
في "مديح التعازي" نقف أمام تأمل الموت الأصغر والموت الأكبر حسب توصيف الشاوي، لاقتلاع شرّين من أقسى الشرور الهالكة للبشر: الموت والسجن. ويبدو أن عدم التفكير في الموت لا يلغي الموت، بل قد يكون نوعاً من مواجهة الموت. وهناك شعوب تفكر في الموت وتحتفل به، يخرجون موتاهم من القبور ويرقصون معهم. وبالتالي فإن الخوف من الموت العجز هو أكثر من الموت. ويرى أن التفكير في الموت عاطفة مثل بقية العواطف الفرح والحزن والقلق، وسواء فكرنا فيه أو لم نفكر، هو حاضر بيننا، ونحن نمشي في مسار الحياة الذي ينتهي بالموت. هناك بشر يخافون ويهابون مجرد سماع كلمة الموت، وهناك آخرون يتدربون عليه يومياً مثل المواطن التونسي عبد العزيز العمامي الذي بات على مشارف السبعين، وهو يعتقد أن الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة ومتاع، ويعتبر القبر الصلة بين الحياة والموت، ويدخل إلى قبره المفترض الذي جهزه، من دون كفن ويتوسد التراب، ولا يعرف إن كان يهنأ في استسلامه الخالد بما يعلنه من أنه يتدرب على الموت، لكن المؤكد في ذلك أنه يقوم به بكل وعي لوجوده الدنيوي، وقد تجده بعد الاستسلام في خوف من موته الخاص، والخلاصة هنا دعوة لتجاوز المرء حالة التفكير بالموت.
ويبدو التدرب على الموت من الناحية الدينية، موتاً في الحياة، بالنظر إلى ما يكرسه في الذهن والوعي من تسليم واستسلام. وهو بذلك على مذاهب جميع الزهاد في أن دار الآخرة هي الأصل. فتصبح الحياة ميتات بالتدريج. وهو بذلك يسترشد بالكاتب محمد الماغوط الذي يصفه بصديقه الذي لا يعرفه، في قوله "إن الموت ليس هو الخسارة الكبرى، الخسارة الأكبر هي ما يموت فينا ونحن أحياء". ولذلك يساجل ضد الانتحار في "التيهاء" حين يتحدث عن انتحار الكاتب الأردني تيسير سبول، ويعتبره من أسباب الوجود العصي على الفرد.
يعد "مديح التعازي" تأملاً مغرقاً في الموت، فللجسد روح كالبيت إذا نام خرجت وحين يستيقظ تعود، ولأنه لا يمكن تصور بقاء الموت في الوجود من دون مقابر، فإن الأمر لا يتعلق بتلك المساحة الجغرافية البيئية المعدة للتخلص من الجثث التي لا تكف عن الموت، وبالتالي لا يمكن تصور مقبرة من دون حفاري قبور وقوانين للدفن. ويضعنا أمام تجربة مغربية في تدبير المقابر، وإنتاج معرفة وقوانين تساعد على تعايش الأموات والأحياء "حقوق الإنسان تشمله حياً وميتاً".
تبدو الكتابة عند الشاوي حرة تماماً، هو يكتب من دون تكلف أو تخطيط صارم، ولذا يتقاطع في كل عمل من أعماله، الشعر بالرواية بالقصة بالفلسفة والتنظير والتأمل الصوفي. وتبدو ممارسة الحرية مع الكتابة نوعاً من تحرير الذات التي عرفت تجربة السجن السياسي في سبعينيات القرن الماضي، في وقت عاش فيه المغرب "سنوات الرصاص"، ورغم أن الشاوي سجل تلك التجربة في رواية "كان وأخواتها" التي كتبها في السجن، إلا أن ما لديه لا ينفد. ويظل في ذهاب وإياب بين الذات والموضوع، وبين ما حصل، ورجع إلى الداخل كصدى لتجارب خاصة.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها