ولدت لميعة عباس عمارة العام 1929 في بغداد، في منطقة الكريمات، وهي منطقة تقع في قلب المنطقة القديمة من بغداد، والقائمة بين جسر الأحرار والسفارة البريطانية على ضفة نهر دجلة في جانب الكرخ. تنتمي إلى الطائفة الصابئية المندائية، وجاء لقبها عمارة من مدينة العمارة حيث ولد أبوها. وهي ابنة خالة الشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد، الذي كتب عنها في مذكراته كثيراً وامتدح شخصيتها كامرأة وشاعرة. ويقول: "كي أرسم للميعة صورة دقيقة، لا بد أن أؤشر في ذكرياتي هذه أنها الإبنة الكبرى لأب له أربع أخوات، هو أخوهنّ الوحيد. وأن والدها كان من أمهر الصاغة في العراق. بل لقد بلغت بعض نقوشه على الفضة والذهب حدَّ الإعجاز. وكان إلى جانب ذلك من أمهر الخطاطين، حتى أن أول دواوين إيليا أبي ماضي كانت عناوين قصائده بخط عباس عمارة، فقد كانا صديقين حميمين أثناء إقامة خالي الطويلة في أميركا. وكان عباس عمارة شاعراً مرهفاً بالعامية والفصحى. يتقن أكثر من أربع لغات قراءة وكتابة، وحديثاً طليقاً. رغم أنه لم يتخطَّ المرحلة الإبتدائية في دراسته. وكان من أمتع الناس حديثاً! ولأنّ خالي عباس عمارة كان وحيد أهله، ولأنه كان كثير السفر والإقامة خارج العراق. فقد أقام في القاهرة، وشمال أفريقيا، بالإضافة إلى إقامته الطويلة في باريس وروما، ثم أميركا التي امتدت إقامته فيها قرابة عشر سنوات. لهذا كله. ولأن لميعة كانت مدلّلته بين جميع أهل بيته، فقد احتلّت موضع الصدارة في البيت دون منازع! يضيف "هنا لا بد لي أن أشير إلى أن بيت جدّي عمارة، الذي هو والد أمّي، ووالد خالي عباس أبي لميعة، كان مسكن العائلة كلها.. سواء في بغداد أو في العمارة أوائل انتقالنا إليها. لقد كان في البيت جدي وجدتي، وبناتهما الأربع اللائي كانت والدتي المتزوجة الثانية بينهنّ. ثم والدي، وهو ابن أخي جدّي. ربّاه في كنفه. وكان والدي غالباً ما يرافق خالي في سفره للعمل معه. تأتي بعد ذلك عائلة خالي، وكانت تتكون آنذاك من خالي وزوجته، وابنتيه لميعة ومليحة، وابنه رجاء – رحمه الله -.. أما إخوتي وإخوة لميعة الآخرون، فما كانوا قد ولدوا بعد"...
حصلت لميعة على شهادة الثانوية العامة في بغداد. ودرست في دار المعلمين العالية –كلية الآداب– كان من النادر على المرأة العراقية آنذاك وفي خمسينيات القرن الماضي أن تتفرغ للدراسة، كان ذلك العام 1955، وعن تلك المرحلة المهمة من حياتها العملية تقول الكاتبة والشاعرة هدية حسين: "… في صباح اليوم التالي ساد بيننا وجوم وحزن، وبعد دقائق أطلت المدرسة الجديدة … امرأة فارعة الطول، واسعة العينين، أنيقة بشكل مفرط، ألقت تحية الصباح وراحت تتحدث الينا… كان لها صوت ساحر، تتحرك برقة وتتكلم بعذوبة، لم تحدث طوال وقت الدرس أية جلبة، بل كنا منصتات بشكل عجيب ومأخوذات بهذه المرأة.. طرحت علينا طريقتها في التدريس التي لا تشبه أية طريقة عرفناها، فأخبرتنا إن درس الانشاء سيكون كتابة بحوث عن الأدباء والمفكرين طيلة النصف الاول من العام الدراسي، لكي يتسنى لنا تقوية ملكتنا اللغوية. وحينما أعلن الجرس نهاية الدرس قالت: اسمي لميعة عباس عمارة وما إن خرجت حتى رحنا ننظر الى بعضنا بعضا إعجابا بهذه الشخصية التي سحرتنا، والتي أصبحت فيما بعد مثلنا الاعلى في كل شيء، بل بتنا نقلد طريقتها في الحكي، ونتسابق لابراز أفضل ما لدينا". وتستطرد الكاتبة في تحليلها لأهم المؤشرات التعليمية في حياة الشاعرة لميعة فتقول: "هذه المرأة الصابئية هي التي جعلتنا نبحث عن الجمل المفيدة ونستخرجها من القرآن، وليس على طريقة ذهب فلان وجاء فلان، واشتريت كذا وكذا. كانت تقول أقرأوا قرآنكم وتعلموا منه، واقرأوا نهج البلاغة وتعلموا كيف تكتب الجملة وكيف تقرأ".
وفي مرحلة الجامعة صودف أن اجتمع عدد من الشعراء في تلك السنوات في ذلك المعهد، ومنهم بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وعبد الرزاق عبد الواحد وغيرهم، وكان التنافس الشعري بينهم شديداً، ونجمت عنه ولادة الشعر الحر، الذي شاركت في ولادته أيضاً الشاعرة نازك الملائكة. والنافل أن لميعة بدأت كتابة الشعر في وقت مبكر من حياتها منذ أن كانت في الثانية عشرة، وكانت ترسل قصائدها إلى الشاعر المهجري إيليا أبو ماضي الذي كان صديقاً لوالدها، ونشر لها في مجلة "السمير" التي كان يصدرها، أول قصيدة وهي في الرابعة عشرة من عمرها، وقد عززها أبو ماضي بنقد وتعليق، وأدرجها في الصفحة الأولى من المجلة وقال: "إن في العراق مثل هؤلاء الأطفال فعلى أية نهضة شعرية مقبل العراق؟".
وتطور اسم لميعة وصار حكاية مع اقترابها من السياب، فهي كانت في شبابها جميلة جداً، وكانت زميلة السياب في دار المعلمين العالية، ويقال إنها كانت من الفتيات اللواتي أحبهن في شبابه، وهو يذكرها في مواضع عديدة في شعره؛ من أبرزها قصيدته التي عنوانها "أحبيني لأن جميع من أحببت قبلك ما أحبوني". هناك من الباحثين من يجزم بأن العلاقة اقتصرت على الابتسامات وتبادل النظرات... ويقول الكاتب رياض العلي: "ذكرت لميعة عباس عمارة أن السياب كان يحب فتاة جميلة جداً اسمها لبيبة القيسي، كانت زميلة له في دار المعلمين العالية، وقد ذكرها في قصائد عديدة حيث كان يسميها "لباب". ويبدو أن هذا الحب كان من طرف واحد، شأنه شأن بقية التجارب العاطفية الفاشلة التي كان يتورط فيها السياب. وبعد تخرج لبيبة، أصبحت زميلة للميعة في التدريس بدار المعلمات، ونشأت بينهما صداقة حميمة كانت كافية للمكاشفة والحديث عن مكنونات الصدور وكشف الأسرار الخفية.
ففي جلسة هادئة سانحة، كما تذكر لميعة، وبعيدة من ضوضاء الطالبات في المدرسة وصخبهن، سألت لميعة صاحبتها: هل تعرفين أن بدر شاكر السياب كان يحبك، وأنه ذكرك في قصائد عديدة؟ أجابت لبيبة، بلا اهتمام كبير بأنها لم تسمع بتلك القصائد، ولا تذكر شيئاً عن الشاعر، فقد كانت هي في السنة الرابعة وهو في سنته الأولى، وأنها سمعت به فقط من خلال حديث الطلبة عنه. ولنا أن نتصوّر كم هو محزن أن يسهر شاعر لياليه ويحرق عواطفه في كتابة قصائد لامرأة لا تعرفه ولا تشعر بوجوده ولا تقرأ ما يكتبه فيها، وهذه أيضاً إحدى خيبات السيّاب في حياته البائسة".
تقول لميعة: "كانت أكثر لقاءاتي بالسياب في منزل الأديب محمد شرارة الواقع في منطقة الكرادة الشرقية".
وقد أشارت الى هذه الامسيات الكاتبة بلقيس شرارة في مقدمة رواية الاديبة الراحلة حياة شرارة "إذا الايام أغسقت"، وذكرت اسم السياب ولميعة ونازك الملائكة والبعض من رجال الفكر اليساري في العراق، كانا يتبادلان القصائد العاطفية والتي كان فيها بدر أكثر صدقاً من لميعة وهو الامر الذي كان يجري تداول الحديث عنه بين أدباء تلك الحقبة، وحين يقرأ قصائده يفيض مشاعر الى الحد الذي يوحي للمستمعين اليه وكأنه يقدم اليهم أعترافا بلغة الشعر يطال ما كان يجيش في داخله من أحاسيس لا يطيق أن تبقى كامنة، ولا يجرؤ على الجهر بها بالكلام المباشر.
وتقول لميعة -في مقابلة صحافية- إنها والسياب كانا أصدقاء، تقرأ له ويقرأ لها، ويتناقشان في كل شيء، مشيرة إلى أنها أهدته الكثير من قصائدها في حياته وغيابه، وهو كتب إليها الكثير. وأشارت إلى أنها أهدته قصيدة "شهرزاد" عندما كانا معاً في الدراسة، وهي تقول:
"ستبقى ستبقى شفاهي ظِماءْ
ويبقى بعينيَّ هذا النداء
ولن يبرح الصدرَ هذا الحنين
ولن يُخرس اليأسُ كلَّ الرجاء"
وآخر ما أهدته قصيدة سمّتها "لعنة التميّز" في بداية التسعينيات، بعد أكثر من ربع قرن على رحيله، وقالت فيها:
"يوم أحببتك أغمضت عيوني
لم تكن تعرف ديني
فعرفنا وافترقنا دمعتين
عاشقا مُتَّ ولم تلمس الأربعين"
آخر قصائدها
ومن بين آخر ما كتبته الشاعرة لميعة عباس عمارة في مايو/أيار 2019...
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها