أخيرًا سأعرف بالتحديد التهم الموجّهة إليّ لأن قراءة ملخّص القرار الاتهامي الذي سلّمتني إياه منذ ثمان وأربعين ساعة لم تُفدني بشي، لا بل حملت إليّ أسئلة أكثر ممّا حملة أجوبة! عند هذا الحدّ انتهى حديثنا، فأعادني الحراس إلى زنزانتي، وقد نال منّي التشاؤم لأنّني سأبقى محبوسًا لساعات لا تنتهي. كان صعبًا بالنسبة إلى شخص مفرط النشاط مثلي أن يتحمّل الوضع. لا شيء أفعله. فارتأيت، لأقتل الوقت، أن أقرأ كتيّب قواعد السجن مرارًا وتكرارًا. وجدت فيه عرضًا مفصّلًا بدقّة للحياة داخل السجن. كان فصل «الاتصال بالعالم الخارجي» من صفحات عدّة. بعد قراءته أدركت السبب الذي دفع بالمساعدة الاجتماعية إلى السماح لي استثنائيًا، في ما بدا وكأنه امتياز كبير، باستخدام الهاتف في مكتبها. فالإجراءات التي تنظّم الاتصال بالعالم الخارجي كتبها على الأرجح أفراد وكالة الاستخبارات المركزيّة الأميركية. وبموجبها لا يكفي تسليم لائحة بأرقام الهواتف إلى إدارة السجن التي تبتّ بأمر المصادقة عليها، بل يتعيّن على الأشخاص الذين حصلوا على إذن الاتصال بأحد الموقوفين أن يسجّلوا أسماءهم على منصّة إلكترونية من خلال حساب مصرفي مفتوح في الولايات المتحدة. يا للمهمّة الصعبة بالنسبة إلى الرعايا الأجانب. بعبارة أكثر وضوحًا، يتطلب إنجاز هذه المهمّة ما لا يقل عن خمسة عشر يومًا... وهي ليست مجانية.
كذلك هي حال سائر الأمور على أية حال! لكلّ شيء ثمن داخل السجن، حتى الأمور الأساسية في الحياة اليومية للسجين مثل الصابون ومعجون الأسنان وفرشاة الأسنان و... كوب البلاستيك! وهو من أثمن الأغراض في ويات، فمياه الشرب ليست متوفرة في السجن لسبب ما زلت أجهله حتى اليوم، إلا على شكل مكعّبات ثلج. إذًا، ولكي يشرب السجين الماء، عليه أولًا الخروج من الزنزانة (في الأوقات المسموح بها) للوصول إلى القاعة المشتركة حيث يمكنه التزود بمكعبات الثلج (مجانًا) الموضوعة بداخل صندوق، ثمّ وضعها في كوب من البلاستيك يطلبه من مطعم السجن (بعد دفع ثمنه). ولا يوجد أو يُسمح بأيّ مستوعب آخر للماء. وبعدما يملأ السجين كوب البلاستيك بمكعبات الثلج يسمح له بأن يقصد موزّع الماء المغلي الوحيد في القاعة ليملأ كوبه. وعندما يفرغ الصندوق من الثلج، وهذا ما يحصل دائمًا، عليه أن ينتظر إحضار الصندوق الجديد، وهو ما يحدث مرة واحدة يوميًا. سعيدٌ من ينجح في العودة إلى زنزانته بكوب ماء الشرب بعد أن يشعر بالعطش الشديد. على أية حال لا يُسمح بعملية إذابة الثلج تلك سوى في ساعات محددة من النهار.
سرعان ما أدركت أن القاعة المشتركة التي تُستخدم أيضًا حجرة طعام تشكّل قلب الجناح (د) ومكان الحياة الوحيد فيه. أما وجبات الطعام، وبرغم أن عبارة «وجبة طعام» ليست في محلها تمامًا، فتُقدّم على صوانٍ من البلاستيك البنيّ اللون مقسّمة إلى أربعة أقسام. الأول مخصص لشرحتَي خبز والثاني للخضار، لكنه فارغ في معظم الأحيان. والثالث للطبق الرئيسي، وهو نوع من العصيدة التي يتغيّر لونها من يوم إلى آخر فيما يبقى محتواها صعب التحديد، لأنّها عديمة الطعم، والأكثر غرابة، أنّها عديمة الرائحة، ولا يمكن للسجين أبدًا أن يعرف ما يأكله. وأخيرًا القسم الرابع المخصّص نظريًا لأنواع التحلية المختلفة، لكنّهم لا يُقدّمون إلّا نوعًا واحدًا هو التفّاح المطبوخ بالسكّر. ولأن ويات كان سجنًا خاصًا، فإن كلفة الوجبات المقدمة فيه محسوبة بدقة، ويجب ألا تتعدى الدولار الواحد (ما يعادل 0.8 يورو). والسجن الخاص هو في حقيقة الأمر مشروع تجاريّ يهدف إلى تحقيق الأرباح. فالسجناء ليسوا فقط ملزمين بألّا يكلّفوا المجتمع فلسًا واحدًا، بل المطلوب منهم أن يحققوًا أرباحًا للشركات التي تدير مراكز الاعتقال. لا شيء متروك للصدفة. فمثلًا يستطيع السجين مشاهدة التلفزيون مجانًا، لكنّ عليه أن يدفع المال حتّى يستطيع سماعه! كذلك من الضروري شراء جهاز راديو وسمّاعات من مخزن السجن. يجب دفع المال بلا توقف، هكذا تسير الحياة في سجون الولايات المتحدة.
عُلّقت على جدران القاعة المشتركة ثلاثة أجهزة تلفزيون، جهاز في كلّ زاوية. واحد للسود يعرض مجموعة مختارة واحدة من برامج تلفزيون الواقع المحزنة من نوع «لوف أند هيب هوب إن ميامي» التي تبث طوال النهار صورًا لنساء جميلات خضعن لعمليات تكبير بالسيليكون لمفاتنهنّ. وبحال كان السجين لاتينيًّا، فسيجلس مع زملائه حول شاشة أخرى لا تعرض إلّا مسلسلات مكسيكية تعرضها قناة «تيلي موندو» إلى جانب مباريات في كرة القدم في بعض الأحيان. أما الجهاز الأخير المخصص للبيض فيبثّ مباريات في كرة السلّة أو الفوتبول الأميركيّ أو الفنون القتالية، بدون انقطاع، إلّا في الصباح ولمدة ساعة حين تُعرض عليه أخبار «سي أن أن». في المبدأ يحقّ لكلّ سجين الجلوس أمام جهاز التلفزيون الذي يريده. لكن المقاعد الجيدة، قبالة الشاشة، مخصصة حكمًا لأفراد العِرق الذين يخصّهم الجهاز. ولا يحقّ للسجين أن يطلب تغيير البرنامج في حال كان يشاهد البرامج خارج مجموعته العرقية. والحراس هم المكلفون بالإشراف على أجهزة التحكّم عن بعد، ذلك أن الخلافات تنشب دائمًا بين المساجين وتتحول إلى شجارات عنيفة في بعض الأحيان. للأسباب عينها كانت القاعة المشتركة التي نتناول الطعام فيها موضوعة تحت المراقبة الدائمة بواسطة ثلاثة أجهزة كاميرا. لكنّ طوابير الانتظار أمام أجهزة الهاتف الأربعة كانت دائمة وطويلة. والخصوصية معدومة، فالجميع يسمعون كلّ المكالمات (20 دقيقة في الحدّ الأقصى). كما أن إدارة السجن تنصت إلى كل اتصال وتسجّله ثمّ تنقله إلى النواب العامين ومحققي مكتب التحقيقات الفدرالي. وبمحاذاة القاعة الجماعية، تقع الحمّامات المشتركة ومنها اثنان خارج الخدمة. وإذ اعتاد الموقوفون دخولها بالخفّين والسروال الداخلي، فذلك حرصًا منهم على النظافة الشخصية كما على تفادي التحرّش الجنسي.
أهلًا وسهلًا بكم في ويات!
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها