لا تراعي الكتابة ولا التمثيل أن هناك منطقاً ولغة وأفعالاً تحكم الشخصية. أنظروا مثلاً إلى شخصية "أبونا إيليا" الذي يبدو أقرب إلى مهرج منه إلى رجل دين. وانظروا إلى أحد حواراته المخجلة مع البطل: أمام سرير البطلة التي دخلت الغيبوبة يبحث يوسف و"أبونا" عن خافض للحرارة، فلا يجد إلا "تحاميل". يقول "أبونا" للبطل، وكل كلامه موبوء ومفخخ: "أعطيها كل يوم تحميلة، أو تحميلتين. انت شو بتحس أعطيها"، ثم يجيب عندما يسأله البطل أن يبقى معه "بدّها واحد. واحد لحالو بيكفّي".
أنظروا مثلاً عبارة أخرى من حوار البطل، وأي منطق مفحم تحمل. يقول متهكماً: "هاي سوريا الربيع العربي. بذمتك، في شعب بينام أكتر من عشر ساعات خرجه يعمل ربيع عربي؟".
كنا عايشين
لا شيء يحدث على مستوى الحكاية نفسها، سوى محاولات يوسف عمل سواتر كتوطئة للهروب من الحي، لكن الحل يأتي في النهاية من خارج الحكاية الأساسية للبطلين المحاصرين، إذ يعلن خبر بالاتفاق على خروج آخر المسلحين من الحيّ. أما الباقي فهو تفاصيل، لكنها ليست قليلة الشأن، من بينها تصوير عناصر جيش النظام الذي يطلّ على الحي بنقطة عسكرية تواجه مسلّحي أبو عبدالله، بغاية الرومانسية، لا همّ لهم سوى الغناء، وتبادل الغناء عبر مكبرات الصوت مع البطل يوسف، عازف العود، و"أبونا". لكن ليس الغناء وحده، فأحياناً هناك مهمة إغاثية طريفة، يستعملون المنجنيقات، في مشهد كوميدي، لرمي السكان المحاصرين بالرز والشاي والسكّر (هل عرف العالم كلّه فاتحاً أرحم!).
يطمح الفيلم إلى تقديم خلطة تصلح لسينما جماهيرية، فيها الضحك، وفيها الغناء، والأخير موظف أيضاً للتوجيه السياسي. فاختيار مقاطع الغناء جاء ليكرر عبارة "كنا عايشين"، وتعني أن سنوات ما قبل الحرب هي ماضي السوريين الذهبي. أغنيات تقول "زمان كان لينا بيت واصحاب طيبين"، و"كان يا ما كان، الحب مالي بيتنا".
من أجل الضحك، يصنع الفيلم حكاية فانتازية لطيار مجنون من أبطال حرب تشرين، يسيطر مع بناته على أحد الأحياء، يروح يخطف ويحقق مع المخطوفين لحسابه، وهنا، مع مجانين هذا الحي، بالإمكان العثور على فسحة من الغناء والضحك، ولكن أي "كوميدي ميوزيكال" في قلب هذا الدمار المفجع؟
يحاول جود سعيد أن يقدم بروباغندا النظام في إطار سينمائي، يجهد في تصميم كوادر وصور سينمائية احترافية، ويبدو أنه مولع باستخدام المظلات التي ظهرت في غير مشهد بسبب أو من دون سبب، فقط لإضافة لمسة جمالية للصورة. يعتمد على صور مكرورة، تجمع بين مشهد الدمار وتفاصيل توحي بالحياة والأمل، مثلاً سيارة مهملة وخربة تعرش فوقها شجرة ياسمين، لتضم مشهد حب بين عاشقين. كما لا يتورع "مطر حمص" عن أخذ بعض المشاهد من مرجعيات سينمائية مشهورة، فهو يأخذ شخصية الطفلة الصغيرة المحاصرة، المرتدية دائماً المعطف الأحمر من فيلم "شندلر ليست" لستيفن سبيلبيرغ، كما يذكّر بحث البنت يارا عن أخيها بثيمة "إنقاذ الجندي رايان"، ويقلد فيلم "باب الشمس" وسواه باستخدام تقنية الروي فوق رأس الغائب عن الوعي.
حاول الفيلم أيضاً صناعة شريط صوتي متقن (صممته اللبنانية رنا عيد*).
لكن ذلك كله لا يمكنه أن ينقذ حكاية ملفقة، وحواراً رديئاً، وهنا نتحدث عن مستوى الكتابة، لا عن التوجه السياسي. كذلك يصعب أن ينقذ فيلماً غارقاً بممثلين عديمي الموهبة، خصوصاً الرئيسيين منهم.
"مطر حمص" ليس أكثر من بروباغندا سياسية تبث أفكاراً مسمومة، ومع التفسير الطائفي الذي يتبناه الفيلم يمكن القول إنه يتوخى أثراً أقرب إلى تفجير في ساحة التحرير (حي مسيحي في قلب دمشق)، أو في حي الزهرا الحمصي. أي أنه يتوخى إرهاب وتخويف أكثرية السوريين، حتى وإن جاء بلبوس ضاحك ورومانسي مفعم بالمطر.
(*) هنا لا بد من سؤال: رنا عيد، إلى جانب حرفتها الأساسية كمصممة صوت، هي مخرجة أفلام وثائقية حققت أخيراً فيلم بانوبتك Panoptic منعت الرقابة عرضه في لبنان، وحازت أوسع تضامن بسبب ذلك، حيث الفيلم ينتقد النظام الأمني، وميليشيات "حزب الله"، والبوريفاج (مقر المخابرات السورية في عهد الوصاية) لكن مع ذلك تجدها تعمل في فيلم هو بروباغندا خالصة للنظام السوري!
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها