الخميس 2016/08/25

آخر تحديث: 02:11 (بيروت)

ماذا تنفع الأمنيات؟

الخميس 2016/08/25
ماذا تنفع الأمنيات؟
من قال لأهلي أنني كنت سأصلي في مسجد السلام؟
increase حجم الخط decrease

في مثل هذا اليوم ومنذ ثلاث سنوات، كنت انتظر وصديقي أحمد على درج نقابة المحامين في طرابلس صدور نتائج امتحانات الانتساب.

كان يوم الجمعة، وكنت أحاول اقناع أحمد بالصلاة في مسجد السلام عند الشيخ بلال بارودي، لكن محاولاتي باءت بالفشل. أقنعني بضرورة الصلاة في مسجد الرحمن القريب من مبنى النقابة كي لا نبتعد في حال صدرت النتائج.

صلينا في الرحمن وعدنا مسرعين لممارسة فعل الانتظار. ما لبثنا أن وصلنا إلى الباب الزجاجي للمبنى حتى سمعنا دوي انفجار، وكان إلى جانبنا عدد من المحامين وبدأت التكهنات: سيارة مفخخة، تفجير سياسي... طُرحت كل الاحتمالات ولم يخطر في البال أن يكون التفجير قد طال مسجد السلام. فنظراً إلى المسافة الجغرافية القريبة نسبياً بين مبنى النقابة والمسجد تمكنا من سماع صوت الانفجار. أما تفجير التقوى فلم نسمعه، رغم أن بعض الزملاء وبعدما عرف بالتفجير قالوا إنهم سمعوا صوتاً خفيفاً قبل تفجير السلام بدقائق.

انقطعت مباشرة الاتصالات، وتحولت الشوارع إلى أمكنة فراغ، حتى القطط التي كانت منتشرة بكثافة غابت عن المشهد. وحده زمور الصليب الأحمر والجمعية الطبية طغى.

أصابتنا الحيرة: أنبقى منهارين من هول ما نسمع، ولا نعرف ماذا جرى؟ نتصل للاستفسار، الشبكة معطلة. نسير في الاتجاه الذي نعتقد أنه مصدر الصوت؟ نبكي على مصير المدينة ومصيرنا معها؟

الكل ينظر إلى وجه الكل ولا كلام، إلى أن جاءت سيارة مرسيدس "شبح" سوداء اللون. نزل منها شاب ثلاثيني لا يعرفه أحد منا. توجه نحونا سائلاً عن اسم فتاة لم أعد اذكر اسمها. فأجابه أحد الشباب بأنها داخل الكافيرتيا. دخل فوجدها تبكي خوفاً، أمسك يدها وخرجا. فسألناه عما جرى، فأجاب: "مفجرين سيارتين بالمصلين بمسجدي التقوى والسلام".

كان كلامه صادماً. صرخت زميلتنا فرح من الخلف: "شوووووو.. فجرو المصلين أخي وأبي في السلام". وانهارت بكاءً وصراخاً. ازدادت حيرتنا أنا وأحمد، كأننا تحولنا إلى تماثيل لا تتحرك. كل منا ينتظر النتيجة ليحقق حلماً ويُفرح أهلاً وحبيبة ينتظرون بفارغ الصبر. فهل نمعن بالإنتظار أم نتحرر من الصدمة ونتجه نحو مسجد السلام للوقوف على ما جرى؟ هل من المعقول أن تصدر النتائج على جثث الشهداء؟

حسمنا الأمر وتوجهنا بعد نحو الساعة أو أقل مشياً على الأقدام قاصدين مسجد السلام. قطعنا ربع المسافة، واذ بهاتفي يرن قبل مستشفى النيني بأمتار قليلة، مقابل منزل الوزير فيصل كرامي مباشرة. كان أخي، وراح يسألني بصوت خافت يعتريه البكاء: "انت وين؟ انت منيح؟ صار معك شي؟ ليش تلفونك مسكر برمنا البلد عليك؟ انت وين هلق؟". لم اتمكن من الرد سوى بكلمة تطمينية: "أنا بعيد من التفجير. الاتصالات كانت مقطوعة". يرد: "اتصل بأمك وأبيك، طمنهما عنك بسرعة. ظنا أنك تصلي في السلام".

من قال لأهلي أنني كنت سأصلي في السلام. سألت نفسي ولا جواب. اتصلت بشقيقتي فردت قبل أن يرن هاتفها، وصرخت. أخبرتها بما جرى معي بالتفصيل، وكانت أمي تبكي، فيما أخبرني والدي أن شخصاً لا يعرفه مر بجانب منزلنا، وقال له: مصطفى يصلي في مسجد السلام، ورحل. وإلى اليوم لايزال لغز هذا الرجل مجهولاً، فلا والدي استطاع أن يتذكر شكله وهويته ولا مر مجدداً بجانب منزلنا.

وصلنا إلى باحة مسجد السلام وسمعنا أصوات النساء والأطفال. شاهدنا الجثث والجرحى في مشهد مأساوي. هزمتنا صور الشهداء والأيدي المتطايرة واللحم المتناثر في الأرجاء. عدنا أدراجنا خوفاً إلى درج النقابة. جلسنا عليه منفردين أنا وأحمد. لم نجد أحداً من الزملاء الذين كانوا معنا قبل التفجير وبعده.

بقينا هناك حتى منتصف الليل. كان أعضاء مجلس النقابة قد أنهوا كل الترتيبات لإعلان النتائج قبل التفجير. لكن عند علمهم بما حدث قرروا تأجيلها إلى فترة ما بعد العصر. فامتدت حتى منتصف الليل.

أخبرت أهلي أنني نجحت، فكان والدي يريد إطلاق الرصاص في الهواء، رغم أني لم أر يوماً سلاحاً في منزلنا. لكنه مراعاة للتفجيرين عدل عن رأيه.

اليوم، بعد ثلاث سنوات على التفجيرين، أستعيد اللحظة بكل تفاصيلها، بمرارتها، ومآسيها. كم تمنيت لو أنني لم أتقدم لتلك الامتحانات مع أنها كانت مصيرية بالنسبة إلي، ولم يحصل التفجير الفتنة. لكن ماذا تنفع الأمنيات؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها