الأحد 2014/09/14

آخر تحديث: 10:18 (بيروت)

"المعلم" عاطف.. الكندرجي "المعزز"

الأحد 2014/09/14
"المعلم" عاطف.. الكندرجي "المعزز"
ذاع صيت "المعلم" عاطف في صيدا وجوارها (علي علوش)
increase حجم الخط decrease

في هذه الغرفة التي لا تتعدى المتر المربع الواحد، في داخل أحياء صيدا القديمة، يمارس "المعلم" عاطف مهنة "الكندرجية". هذه المهنة التي قلما تجد من يمارسها، تستعيد اليوم قليلا من عافيتها في زمننا الاقتصادي المتردي. حيث يلجأ الفقير لإصلاح ما بقي من حذائه، عوضا عن شراء "جوز" جديد.


بصوت خافت يقول عاطف: "عشقت المهنة. أغرتني، وأبدعت في اتقانها. ورثتها عن والدي منذ 40 سنة، وفضّلتها على دراستي. كنت أتسلل صباحا من صفي لألتحق بدكان أبي، الذي لطالما وبّخني وحاول منعي، رغبة منه بأن أكمل دراستي. شاءت الاقدار، وتوفي والدي بعد أربع سنوات، فاستلمت رسميا المهنة، والتحقت بسوق العمل وغادرت المدرسة بلا رجعة".

في هذا الدكان الصغير الذي لا تصله أشعة الشمس فوضى عارمة. الدكان الذي ورثه عاطف عن والده، شاهد على تقنية رب العمل وشطارته، وعلى فقر الناس ووضعهم المزري. هنا، يجلس "المعلم" عاطف محاطاً بالماكينات وببعض الأدوات التي يستعملها في مهنته. يعتمر قبعته السوداء الشهيرة، التي تقيه برد الشتاء وحر الصيف. وكأنها تناديك من بين الرؤوس عن بعد لتزور دكان صاحبها. يستعين بنظارات بعد أن خف نظره على مر السنين. يرتدي سترته الخاصة بالعمل، ويبدأ شغله صباح كل يوم. يعمل من التاسعة صباحا لغاية السابعة مساء. يُخرٍج ماكينة "إحاكة" الأحذية التي لا تسع داخل الدكان. ففي الداخل ثلاثة كراس صغيرة مخصصة للزبائن. وهو يضع أمامها كرسيه الصغير، وبجانبه وعاء "الصمغ". يصلح خلال اليوم نحو 20 حذاءا، وأحيانا خمسة أحذية، "حسب الحالة الأمنية والاقتصادية"، كما يقول. وبرأيه فان "عملية تصليح الحذاء في ظل الأوضاع المعيشية الصعبة التي نمر بها، تفرض نفسها على المواطن، الذي يسعى إلى التوفير قدر الامكان، فهو يلجأ لاصلاح حذائه عوضا عن شراء حذاء جديد".

من عبارات "المعلم" عاطف: "رجع التشوز جديد". فهو يعيد الحذاء القديم جديداً. يحيك، يلصق، يطلي، ويدق المسامير، مقابل مبلغ يتراوح بين 1500 وعشرين ألف ليرة لبنانية. السعر الأخير لمن يريد تغيير "نعل" الحذاء كاملاً. وباستطاعته إصلاح أي حذاء ومهما كان مستهلكاً. أسعاره مدروسة، فهي مخفضة للفقير، أما المقتدر مالياً فـ"باخد منه الفرق، والالف على ألف بيجمعوا آخر النهار".

حنكته في المهنة درّت عليه ربحاً وفيراً، خصوصاً أن صيته بات شائعاً ليس في مدينة صيدا فحسب، انما في المناطق المجاورة. "شغلتي نظيفة، وبعرف دغري شو بدو الصباط". مهنته موجهة الى كل الفئات والطبقات الاجتماعية، وغير محصورة بالفقراء، فالغني أيضاً، يقصده "ليصلح نعل حذائه الغالي. نظرة واحدة إلى الزبون وحذائه، تمكنني من التمييز بين المعتر وبين المرتاح".

تزوج من امرأة تعمل في الخياطة، وهي مهنة ورثتها عن والدتها، وأنجبا أربعة أولاد. يملك اليوم منزلا "والحمد الله مستورة"، وهو يساعد أولاده "الذين رفضوا اكتساب المهنة، إذ انها لا تناسب طموحاتهم، فقد سلكوا طريقا آخر، بعيدا عن مهنتي". ويعتبر "المعلم" عاطف أن مردوده المالي جيد وسريع، وغلاء المعيشة ينعكس على بضاعته ومهنته، فيضطر إلى رفع أسعارها أيضا.

لم يزاول عاطف أي مهنة إلى جانب "الكندرجية"، فهي مصدر رزقه الوحيد، لكنه يملك صوتا طربيا جميلا ويعزف على العود، كما يقول، ما خوّله دخول بعض بيوت "كبار وجهاء صيدا"، على أيام الدكتور لبيب أبو ظهر رحمه الله، ليحيي جلساتهم المغلقة، وكان يحصّل منها مبالغ لا بأس بها. لم يمتهن الغناء لأنه، كما يقول، اكتشف موهبته في سن متأخرة.

يحب الحياة، "كييف، ومعزز"، ولا يحرم نفسه ولا عائلته من التمتع بالحياة. فهذه المهنة تؤمن له ولاولاده حياة كريمة، رغم انها في نظر البعض مهنة "دون المستوى"، فهي قد أغدقت عليه ما لم يكن بالحسبان. لذلك، كما يؤكد، لن يتخلى عنها، رغم بلوغه السبعين. لكنه ما زال في كامل نشاطه الجسدي، وأمامه بضع سنوات ليتقاعد. يغوص قليلا في أفكاره، ويستطرد قائلا "على قدر ما عشقت مهنتي، على ما قدر ما أتعبتني. أعطتني الكثير، لكنها أخذت مني أيضاً الكثير". ويختم "المعلم" عاطف كلامه قائلاً: "مهنتي حرة، غير مقيدة بأحد. أعمل على قدر استطاعتي، فأنا رب العمل والعامل، أقفل أيام الآحاد والأعياد. ولا ألتزم إلا بنفسي، ومقتنع بما كتبه الله لي".

increase حجم الخط decrease