الأربعاء 2014/09/03

آخر تحديث: 09:17 (بيروت)

عراق صدام: الاستبداد والحروب

الأربعاء 2014/09/03
increase حجم الخط decrease

لم يشهد العراق في تاريخه القديم والحديث قبل الاستقلال وبعده نظاماً استبدادياً مثل ما شهده في عهد حزب البعث بقيادة الطاغية صدام حسين. فهو كان نموذجاً من نوع ما عرفته عهود الاستبداد والطغيان في زمن محاكم التفتيش في القرون الوسطى وزمن النازية والفاشية في ثلاثينات القرن الماضي.  والخطير في مثل هذا النوع من الاستبداد أنه، وهو يعطل دور الشعب ودور الأحزاب ودور المثقفين ودور أهل المعرفة، يحاول كما حاول صدام حسين بالذات تطوير العمران وتطوير الاقتصاد على طريقته وتحت سلطته وتأميناً لمصالحه وتأبيداً لحكمه الاستبدادي الفردي.  إذ هو يكوّن مع الوقت زبانية له وزبائن من فئات شعبية واسعة، بما في ذلك بين أهل الكفاءات الذين يستسلمون جميعهم لإرادته ويتخلّون طوعاً أو كرهاً عن ما هو حق لهم كمواطنين.  فيصبحون بهذا المعنى رعاعاً أو قطعاناً بشرية كما جرت العادة على تسمية هذه الفئات من المواطنين المستسلمين للطغاة المستبدين في بلدانهم.  لكن من أخطر ما ترافق مع عهد البعث بقيادة صدام حسين هو تطلعه بحذر إلى جيرانه إما خوفاً منهم مثل إيران أو طمعاً بثرواتهم مثل الكويت.  وقد غامر بأكثر من حرب ضد جيرانه كانت حربه مع إيران التي افتعلها أكثرها فداحة وتدميراً.  في حين كان غزوه للكويت كارثة عليه استدرجت حرباً كونية بقيادة أميركا لإخراجه منها.  وظلت مفاعيلها تتفاقم إلى أن تهيّأت الشروط الداخلية والإقليمية والدولية للاحتلال الأميركي للعراق.  وبمقدار ما كان صدام حسين "غبياً" في عنجهيته فيما اعتبره انتصاراً على إيران في حرب السنوات الثمانية، وقاده غباؤه إلى غزو الكويت بعد انتهاء حربه مع إيران، فإن الرئيس الأميركي بوش كان أكثر غباء من صدام حسين في مغامرته باحتلال  العراق.  وإذ دفع صدام حسين نظامه وحياته ثمناً لغبائه عندما استدرج الاحتلال الأميركي للعراق، فإن بوش قد ورط الولايات المتحدة الأميركية بغبائه في مغامرة هوجاء دفع هو ودفعت أميركا ثمنه غالياً، ودفع العراق وشعبه أثماناً باهظة.  وما زالوا يدفعون تلك الأثمان الباهظة حتى هذه اللحظة من تاريخهم المليء بالأزمات المستعصية على الحل. 

إلا أن تناقضين رافقا عهد صدام حسين.  تمثل التناقض الأول برغبته التي عبّر عنها في بعض سياساته الاقتصادية لتعظيم ثروة العراق في عهده.  وتمثل التناقض الثاني بمغامراته في حروبه العبثية مع جيرانه.  وهكذا تظهر في سلوك أمثال صدام حسين الذين يصنعون من ذواتهم أشباه آلهة كم أن حساباتهم وسياساتهم التي حكموا بلدانهم باسمها لم تكن تقف على أرض الواقع.  فدمروا بلدانهم تحت شعار "أنا أو لا أحد أنا أو لا بلد"! 

لقد أتيح لي أن أزور العراق في فترة حكم حزب البعث بقيادة صدام حسين غير المباشرة في المرحلة الأولى والمباشرة في مرحلة لاحقة.  وكانت أولى تلك الزيارات في أعقاب الانقلاب البعثي الثاني في الرابع عشر من تموز من عام 1968 الذي جاء بالبعث منفرداً إلى السلطة من دون أي شريك ممن كانوا سابقاً حلفاء لهم من ناصريين ومن قوميين عرب وآخرين ممن لم يكونوا أصحاب عقيدة أو مذهب أو حزب من الأحزاب المعروفة.  ذهبت يومذاك إلى بغداد بقرار من قيادة الحزب الشيوعي اللبناني التي كنت عضواً فيها في أعقاب ذلك الانقلاب لمعرفة ما جرى وما سيجري في العهد الجديد بعد أن كان قد مضى على الانقلاب البعثي الأول في عام 1963 خمس سنوات.  كان حزبنا في ذلك العام بالذات قد خرج من أزمة كبيرة عصفت به منتصراً في مواقفه وفي برنامجه للمرحلة المقبلة على التيار المحافظ في الحزب الذي كان مدعوماً من الاتحاد السوفياتي.  وكنا قد عقدنا مؤتمراً للحزب في أواسط شهر تموز من ذلك العام بالذات الذي كان مؤتمر التجديد في الفكر وفي السياسة وفي العلاقات اللبنانية والعربية والعالمية.  لذلك كان لزيارتي معنى تجاوزنا فيه الحساسيات التي كانت قد توّلدت بفعل ذلك الانقلاب السابق (1963).  التقيت على الفور لدى وصولي إلى بغداد بقيادة الحزب الشيوعي وبعدد من قادة حزب البعث وبأحد رموز حركة القوميين العرب في ذلك التاريخ فؤاد الركابي. 

استقبلني القياديون في حزب البعث بالترحيب مقدرين لي وللحزب تلك المبادرة الكريمة إزاءهم.  وعندما سألتهم عن علاقتهم بالحزب الشيوعي أجابوني بوضوح بأنهم عرضوا على الحزب المشاركة في الانقلاب فرفض.  لذلك فإن على الشيوعيين أن يعرفوا من الآن فصاعداً أن حزب البعث هو الحزب الحاكم منفرداً.  أما قيادة الحزب الشيوعي التي التقيت بها وعلى رأسها الأمين العام للحزب عزيز محمد فكان موقفها يشير إلى بعض الاضطراب والقلق من المستقبل مع ميل واضح عندهم بعدم التصادم مع حزب البعث والبحث عن صيغة واقعية للعلاقة معه في السلطة وعلى تخومها.  أما فؤاد الركابي فكان شديد القلق والتشاؤم.  وكان قد أصبح في مواقفه مختلفاً عن تاريخ سابق كان فيه شعبوياً معادياً للشيوعيين.  ولم يمضِ وقت قصير بعد ذلك اللقاء معه حتى غابت أخباره وغاب هو عن الوجود ومات تحت التعذيب من دون ضجة داخل زنزانته. 

ثم تكررت زياراتي إلى العراق منفرداً أو مع قياديين في الحزب كان أهمها تلك التي كنت فيها رفيقاً للأمين العام للحزب نقولا شاوي في عام 1972، العام الذي كانت قد تشكلت فيه الجبهة الوطنية التقدمية بقيادة حزب البعث وشارك فيها الحزب الشيوعي وأحزاب أخرى كان من بينها الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي لم يبق فيها إلا فترة قصيرة.  التقيت برفقة نقولا شاوي بقيادة الحزب الشيوعي للبحث في البنود التي قامت عليها الجبهة فتبيّن لنا باعتراف الرفاق الشيوعيين أنفسهم أن تلك البنود تؤكد وحدانية حزب البعث في كل الشؤون داخل الدولة وفي المجتمع.  وهو أمر كان مربكاً للحزب فيما يتعلق بمستقبل الوضع في العراق.  التقينا مع رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر الذي رحب بنا وحدثنا ببساطة وعفوية عن سياسة الحزب والدولة.  وبدا لنا في حديثه أنه لم يكن الرئيس الفعلي بل كان الواجهة وأن الرئيس الحقيقي غير المعلن الذي صار معلناً هو صدام حسين. 

لكن آخر زيارة لي إلى العراق في ظل حكم البعث برئاسة صدام حسين كانت في إطار وفد الحركة الوطنية اللبنانية في عام 1978.  وكانت قد بدأت تدخل العلاقة بين البعثيين والشيوعيين في أزمة متفاقمة.  وكان الأكراد قد بدأوا ثورتهم الجديدة في شمال البلاد.  اغتنمت في ذلك الحين فرصة لقاء الوفد مع الأمين العام لحزب البعث منيف الرزاز بديلاً من ميشال عفلق مؤسس حزب البعث، فطلبت منه لقاء على انفراد.  وحين جلسنا معاً طرحت عليه سؤالاً حول أسباب ذلك التوتر المتفاقم في العلاقة مع الحزب الشيوعي وحول إمكانية إيجاد حل له، أجابني على الفور وبحزم بأن هذا الأمر ليس من صلاحياته وليس مستعداً للدخول فيه وأن عليّ أن أوجه السؤال إلى من هم في موقع القرار في السلطة وأن أبعد عنه تلك الكأس.  فذهبت إلى وزير الخارجية طارق عزيز الذي كنت قد التقيت به مرات عديدة في بغداد وفي لبنان وفي السودان وفي أماكن أخرى.  وجهت إليه السؤال ذاته فأجابني بحزم وبصيغة تهديد لا تقبل التأويل بأن على الشيوعيين أن يعرفوا أن محاولاتهم في العمل داخل القوات المسلحة من وراء ظهر حزب البعث سيدفعون ثمنها غالياً.  فقلت له مهلاً مهلاً، فقال لي اذهب إليهم حاملاً لهم معك ما قلته لك بوضوح.  فذهبت على الفور والتقيت بقيادة الحزب وقلت للرفاق ما مفاده أن عليهم أن يتخذوا التدابير الضرورية لتلافي مخاطر ذلك التهديد في ضوء ما بلّغتهم إياه على لسان طارق عزيز.  ولم يلبث أن دخل ذلك التهديد بسرعة حيّز التنفيذ.  وبدأت الاعتقالات والإعدامات تتوالى في صفوف الشيوعيين. 

والجدير بالذكر أن طارق عزيز زار حزبنا في خلال وجوده في بيروت في عام 1979 واستقبلناه جورج حاوي وأنا.  وكان الهدف من زيارته لنا إعلامنا بأنهم قرروا بدء الحرب مع إيران.  حذرناه من نتائج تلك المغامرة.  لكنه كان مكلفاً بإبلاغنا قرار القيادة من دون نقاش. 

وهكذا بدأ صدام حسين حربه مع إيران في ذلك العام، وحربه مع الأكراد في شمال العراق، وحربه ضد شعبه العراقي التي قادت إلى الموت بشتى الوسائل أعداداً هائلة لا أستطيع أن أغامر في تقديم رقم مؤكد لها.  لكنها كانت بالتأكيد قد طالت مئات الألوف من عرب وأكراد. 

غير أن الحروب التي خاضها صدام مع الداخل والخارج سرعان ما جعلته في نظر العالم العربي والمجتمع الدولي مداناً.  لكن تلك الإدانة، لأنها كانت هشة، لم ترهبه حتى عندما بلغت العقوبات الموجهة ضد العراق حدها الأقصى.  إذ أن تلك العقوبات لم تصل إليه شخصياً ولا إلى معاونيه في سلطته وزبائنه وزبانيته، بل هي طالت في شكل أساسي الشعب العراقي.  وظلّ مكابراً في استبداده وفي حروبه إلى أن قادته سياساته إلى استدراج الاحتلال الأميركي للعراق الذي ما يزال الشعب العراقي يدفع غالياً ثمنه وثمن الاستبداد الصدامي.  وهي جميعها الشروط التي وفرت في هذه الأيام الهجوم الداعشي على العراق.  

increase حجم الخط decrease