الجمعة 2014/09/12

آخر تحديث: 17:07 (بيروت)

العراق الذي نحن بانتظاره

الجمعة 2014/09/12
increase حجم الخط decrease

واحد وخمسون عاماً مضت على ذلك الانقلاب الجريمة الذي أطاح جمهورية الرابع عشر من تموز في العراق.  وهي كانت في أساس قيامها، وفي القوى التي هيّأت لها من الأحزاب السياسية ومن القوات المسلحة، جمهورية واعدة غير مسبوقة في تاريخ المنطقة.  وهي ما دلّت عليه الأحداث المعلنة التي وضعتها أمامها قبل وبعد قيامها، والقرارات التي اتخذتها قيادتها وباشرت في تنفيذها في صياغة الدستور الديمقراطي الجديد أولاً ثم في أمور تأسيسية أخرى.  وظلت، خلال السنوات الأربع من قيامها، تتابع ما قامت من أجله، برغم ما واجهها منذ البدايات من صراعات بين مصالح واتجاهات سياسية بعضها داخلي وبعضها خارجي كانت تمثله قوى داخلية.  وكانت جميع تلك المصالح تعبّر عن أحلام وأوهام أصحابها من كل الجهات والاتجاهات والمواقع.  وفي ظلّ تلك الصراعات والمؤامرات التي ترافقت مع بعضها، وفي ظل الارتباك الذي سيطر على الدولة وعلى قيادتها بفعل تلك الصراعات، حصل ذلك الانقلاب الجريمة الملطخ بدم عراقي غزير.  

لقد شهد العراق خلال هذه الأعوام الواحد والخمسين ثلاثة عهود.  العهد الأول هو عهد الطاغية صدام حسين.  والعهد الثاني هو عهد الاحتلال الأميركي الغاشم الذي استدعاه صدام حسين باستبداده وبحروبه العبثية الهوجاء.  والعهد الثالث هو الذي ارتبط باسم نور المالكي رئيس الحكومة العراقية لولايتين الذي تابع في سياساته الخرقاء على طريقته ما كان قد سبقه إليه عهدا الطاغية صدام حسين والاحتلال الأميركي الغاشم.  وكانت النتيجة المباشرة لتلك السياسات في ظل حكومة المالكي هذا الوضع الذي يعيش فيه العراق ممزقاً بفعل الصراعات بين مكوناته ومدمرة مؤسساته ومبددة ثرواته في الفساد الذي عطّل قيام الدولة بعد رحيل القوات الأميركية الغازية.  وهو وضع لم يسبق أن شهد العراق مثيلاً له حتى في أسوأ عهوده.  ألا يشير إلى ذلك بوضوح ساطع وصول هذه القوى الهوجاء التي تحمل اسم "داعش" إلى العراق وتحتل جزءاً عزيزاً ومهماً من أرضه؟!  و"داعش" هؤلاء هم نماذج غير مسبوقة من برابرة القرن الحادي والعشرين الآتين من كهوف التاريخ حاملين معهم باسم الإسلام زوراً وبهتاناً ضد قيمه كل تراث البرابرة الذين عرفتهم البشرية في العصور الأولى قبل التاريخ.  

اليوم، وقد خرج المالكي من السلطة، وجاء إلى المواقع الأساسية في السلطة في رئاسة الجمهورية بشخص الرئيس فؤاد معصوم وفي رئاسة المجلس النيابي بشخص الجبوري وفي رئاسة الحكومة بشخص حيدر عبادي، فقد صار بالإمكان الحديث ولو بحذر كبير عن مستقبل العراق مختلف عما هو فيه الآن ومنذ عقود.  لكنه مستقبل لن يأتي دفعة واحدة.  ولن يأتي من دون صعوبات جمة.  ولن يخلوَ من صراعات بعضها امتداد في شكل مختلف عن السابق لتلك التي قادته إلى أسوأ مرحلة في تاريخه، وبعضها مستحدث مرتبط بالوضع الجديد الذي يجري رسم الطريق إليه بصعوبة بمشاركة عدد كبير من القوى الخارجية تعويضاً عن الخلل في دور القوى العراقية صاحبة المصلحة الأساس في تحرير هذا البلد الكبير من أزماته القديمة والحديثة.  وهو الوضع الذي شهدنا نحن في لبنان نموذجاً له في المرحلة الأخيرة من الحرب الأهلية حين تعذر على اللبنانيين المتصارعين الخروج منها بإرادتهم وبقواهم، فاقتضى استنفار ذلك العدد الكبير من الدول التي شاركت في الإعداد لمؤتمر الطائف وشاركت اللبنانيين المشاركين فيه في صياغة الاتفاق الذي صدر عن المؤتمر وصار دستوراً جديداً للبنان.  

لكنني، كواحد من الذين رافقوا تاريخ العراق منذ ما يقرب من السبعين عاماً أي منذ شبابي الباكر، لا أستطيع إلا أن أشارك العراقيين آلامهم وأشاركهم تفاؤلهم بالمستقبل، رغم كل ما يقف في طريق هذا المستقبل من عثرات.  ومصدر التفاؤل عندي والحذر المتصل به يعود إلى ثلاثة أمور يكمّل الواحد منها الآخر.  يتمثل الأمر الأول في هذه الشخصيات الثلاث التي تحتل اليوم مراكز القرار في كل من رئاسة الجمهورية ورئاسة المجلس النيابي ورئاسة الحكومة.  فهؤلاء المسؤولون الثلاثة هم من الشخصيات المحترمة في تاريخها ومواقفها وبما تحمله من برنامج ومن جهد لإخراج العراق من أزمته وإعادة الوحدة إلى مكوناته التي صنعت تاريخه الحديث منذ عشرينات القرن الماضي، وستصنع هي ذاتها في وحدتها تاريخه القادم.  ويتمثل الأمر الثاني بموقف القوى الإقليمية لا سيما إيران وموقف القوى الدولية من الخطر الذي يمثله وجود "داعش" على جزء من أرض العراق وامتداداً إلى سوريا ولبنان.  وهو خطر تأخر الجميع في رؤية نتائجه الوخيمة ليس على العراق وحسب بل على المنطقة وعلى العالم.  ويتمثل الأمر الثالث في الرغبة المعلنة من قبل العديد من القوى السياسية العراقية للخروج من صراعاتها القديمة المدمرة إلى ما يشبه الإجماع على معالجة وطنية واقعية للأزمة موحّدين ضد "داعش" وضد الأخطار المتصلة بها.  لكن هذه الرغبة المعلنة ما تزال بحاجة إلى إثبات صدقيتها في الممارسة السياسية في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ العراق.

هذه الأمور الثلاثة  برغم ما فيها من التباسات تستدعي الحذر هي التي تجعلني وتجعل الكثيرين يراهنون بحدود معينة على مستقبل العراق الذي نحن مع الشعب العراقي بانتظاره.  فالعراق هو بين البلدان العربية من أهمها ومن أكثرها تأثيراً على المنطقة عندما يتحرر من آثارالماضي ومن الكوارث المتصلة به ويدخل بقوة وثبات في الطريق إلى مستقبله الواعد.  

العراق الذي نحن مع الشعب العراقي بانتظاره هو العراق الذي كان لدى تأسيسه في أعقاب ثورة العشرين بلداً عربياً كبيراً يذخر بالطاقات البشرية ويمتلأ بالثروات الباطنية ويتكامل مع عدة بلدان عربية مجاورة له.  لكن هذا العراق الذي نحن بانتظاره يتطلب من القوى الوطنية العراقية جميعها من كل الجهات والاتجاهات أن تغادر صراعاتها التي دمرت العراق على امتداد نصف قرن وأن توحد طاقاتها في إعادة صياغة الوطن العراقي  بكل مكوناته وطناً قوياً ديمقراطياً ذا دور وموقع مهمين في المنطقة وفي العالم.

increase حجم الخط decrease