الجمعة 2014/09/19

آخر تحديث: 19:09 (بيروت)

هاني فحص:المفكر الفريد

الجمعة 2014/09/19
increase حجم الخط decrease

عندما يذكر اسم السيد هاني فحص في أي محفل من المحافل اللبنانية والعربية، وما أكثرها، تبرز على الفور جملة من الصفات والسمات التي تتعلق بشخصيته المتعددة.  فهو لا يختصر بصفته رجل دين عالماً وفقيهاً.  إنه أشمل من ذلك وأوسع وأبعد مدى في الصفات والسمات.  وحتى حين يشار إلى صفته الدينية هذه وإلى تميّزه فيها، وهو خريج مميّز من جامعة النجف، فإنما يشار إلى كل ما يتصف به العالم الفقيه المستنير، الملتزم بالقيم الإنسانية الكبرى التي يلتقي فيها وحولها البشر الطيبون، أصحاب العقل والعلم والمعرفة والأخلاق، المؤمنون بأن الإنسان هو جوهر الوجود على الكوكب.  فالسيد هاني، كما عرفته بصفاته وسماته كلها، يرى إلى الإنسان مثلما أرى أنا إليه من موقعي كاشتراكي علماني.  وهكذا فقد التقينا كلانا، من موقعينا المختلفين، على احترام حق الإنسان في الحياة والعمل والحرية وحقه في البحث عن سعادته في وطن حقيقي، وطن ترعاه دولة حقيقية، دولة حق وقانون، لا دولة مزيفة في شكل أشبه مزرعة!

وأشهد، من خلال تلك المعرفة المديدة بتفاصيلها التي تعود إلى مطالع سبعينات القرن الماضي، أن هذا الفقيه الشاب - الذي غادرنا شاباً مليئاً بالحياة - العائد من النجف الأشرف إنما عاد منها مختلفاً عن الكثيرين من قرنائه المتخرجين منها.  وقرناؤه في صفاته التي ميّزت حياتهم هم أشبه الندرة.  والندرة صفة طيبة.  لكنها تحمل في الآن ذاتها غصة!  ذلك أن بلادنا بحاجة إلى كثرة من أمثال السيد هاني وقرنائه النادرين هؤلاء.  عاد السيد هاني إلى لبنان من النجف حاملاً في "جبّته" صفات رجل الدين الحقيقي، الذي عرف كيف يحافظ على القيم الإنسانية التي يبشر بها الدين ويدعو إليها، وصفات المفكر العقلاني والأديب الواسع الثقافة، ورجل الدنيا الذي رأى في السياسة بمعناها الأصلي المتصل بالثقافة والمعرفة والأخلاق وبالدفاع عن حقوق الإنسان ميداناً لممارستها على طريقته من المواقع التي تعددت فيها خياراته.  وهكذا، ومن مواقعه المختلفة التي لم ير أي تناقض بينها، بدأ مسيرته الفقهية مسترشداً باستنارته وعقلانيته في كل المجالات التي اختارها لحياته.  وكنت منذ البدايات مرافقاً له، من بعيد أول الأمر، ثم عن قرب في مرحلة ثانية، ثم إلى جانبه رفيقاً له في همومه واهتماماته في العقدين الأخيرين من حياته.  

شارك السيد هاني منذ شبابه من موقعه كرجل دين في الدفاع عن مزارعي التبغ بحماس إلى الحد الذي جعل الكثيرين يتصورونه واحداً منهم.  وهو لم يكن إلا رفيقاً لهم في الإنسانية وفي الاحترام الكامل لحقوقهم التي هي بامتياز حقوق الإنسان والمواطن في وطنه.  وكان شريكاً للمقاومة الفلسطينية في النضال من أجل أن يحقق الشعب الفلسطيني حلمه التاريخي في إقامة دولته الوطنية المستقلة على أرض وطنه فلسطين.  وكان، إلى جانب هاتين المهمتين الإنسانيتين باسم الوطنية اللبنانية والوطنية العربية، يمارس عمله التنويري في الدين، من خلال ما كان يكتبه وينشره في وسائل الإعلام اللبنانية والعربية، وفي الكتب العديدة التي كان يصدرها الواحد منها تلو الآخر.

لكن من أهم صفات وسمات السيد هاني احترامه للآخر المختلف، وإيمانه بالحوار كضرورة إنسانية وأخلاقية.  وباسم هذه الصفة الرائعة الراقية كان شريكاً في مؤسسات لبنانية وعربية وأممية تعنى بالحوار بين الأديان والثقافات.  ونقطة الانطلاق عنده وعند آخرين ممن شاركوه في هذه المهمة الجليلة هي أن الإنسان هو الإنسان أينما ولد وأينما عاش ومارس حياته ونشاطه، وأيا كان دينه وجنسه وأية كانت طبائعه وأية كانت أنماط حياته.  فالإنسان هو الإنسان.  لذلك فإن جوهر وظيفة ومهمة الحوار بالنسبة إلى السيد هاني إنما تكمنان في هذا الإيمان عنده بالإنسان وبحقه المطلق في اختيار طريقة حياته بحرية.  ومن موقع الاختلاف هذا بين المختلفين يصبح الحوار مبدأً إنسانياً مطلقاً.  وأشهد، ويشهد الكثيرون جداً من معارف السيد هاني، أنه كان عميق الإيمان بهذه المهمة العظيمة.

ولأن السيد هاني كان إنساناً رائعاً بكل هذه المعاني فقد كان شديد القلق إزاء ما كان يجري من سوء في بلده وفي العالم.  لكن وطنه لبنان كان المصدر الأكبر والأعمق لقلقه.  فأكثر في الكتابات التي حرص أن يقدم فيها هواجسه ومخاوفه على وطنه. فتوجه بجرأة الواثق من نفسه والواثق من القضية التي يؤمن بها إلى كل اللبنانيين، مسؤولين في السلطة ومسؤولين في الأحزاب ومسؤولين في المجتمع المدني، مطالباً إياهم بحزم بالخروج مما هم فيه من عبث بمصير وطنهم، والدخول بعزم في عملية إعادة بناء الوطن ومؤسساته على أسس تضمن بقاءه وتطوره وتحقيق السعادة لشعبه وإبعاده عما وقع فيه أشقاؤه وجيرانه من كوارث. وكانت رسالته إلى قيادة حزب الله أهم ما تركه قبل رحيله من هموم وقلق ومن دعوة إلى العقل والمسؤولية.

غير أن السيد هاني كان أديباً.  وتعبّر عن أدبه في الدرجة الأولى لغته الجميلة.  لكن لغته لا تحتكر عنده صفة الأديب.  فهو واسع المعرفة بالأدب العربي، وحافظ للكثير من روائع الشعر العربي القديم والحديث.  وهو ناقد أدبي من الطراز الرفيع.  وهو، إلى جانب ذلك كله، شاعر.  لكنه لم يكن يحب أن يوصف كشاعر.  وفي موقفه هذا من شعره وأدبه يبرز تواضعه الذي يشمل جوانب كثيرة من سلوكياته.

يبقى عليَّ وأنا أودع هذا الإنسان الرائع أن أتوقف بكلمات قليلة عند تلك اللقاءات الجميلة التي كانت تجمعني به مع نفر قليل من أصدقائنا المشتركين في منازله المتعددة، وآخرها منزله على طريق المطار القديم. وهي لقاءات كنا نتحدث فيها حول كل الهموم الوطنية اللبنانية والعربية.  وكان شاغلنا الشاغل في الدرجة الأولى البحث عن الطريق الذي يمكن أن ينقذ وطننا لبنان مما هو مسيّر في اتجاهه في شكل عبثي من قبل المسؤولين فيه في كل المواقع، في ظل غياب وعي وطني وشعبي ساهمت فيه الأخطاء التاريخية التي قادت لبنان إلى حروب أهلية وأغرقته في انقسامات طائفية، وعبثت ولا تزال بالوطن وبالإنسان فيه.

وداعاً أيها الصديق الحبيب، أيها الإنسان الرائع الذي نفتقده في اللحظة التي نحن فيها أحوج ما تكون إليه وإلى أمثاله.  أقول وداعاً، وأنا أعرف وأجزم بأنك يا صديقي ستظل رفيقي الدائم في العقل والوجدان والذاكرة.


increase حجم الخط decrease