السبت 2014/08/23

آخر تحديث: 19:14 (بيروت)

العراق : عن ثورة العشرين

السبت 2014/08/23
increase حجم الخط decrease

 

 

لا يمكن الحديث عن العراق الحديث من دون العودة إلى ثورة العشرين التي جمعت كل مكونات الشعب العراقي في بوتقة واحدة لمحاربة القوات البريطانية التي كان قد أعطاها اتفاق سايكس بيكو وعصبة الأمم الانتداب على العراق وفلسطين.  كانت الإمبراطورية البريطانية في ذلك الحين خارجة من الحرب العالمية الأولى منتصرة مع حلفائها الفرنسيين على السلطنة العثمانية وحليفتها ألمانيا. 

تجمعت العشائر العربية والكردية ورجال الدين الذين كان معظمهم من الطائفة الشيعية ونظموا قواهم وبدأوا حركة احتجاج شعبية مرفقة ببعض عمليات المقاومة كان الجنوب والوسط الساحة الأساسية لها.  بذل البريطانيون أقصى جهدهم لمحاولة الالتفاف على الثورة وخلق انقسامات في صفوفها فلم يفلحوا.  فلجأوا في آخر المطاف إلى الطلب من العشائر والعائلات ومن زعماء الثورة ومن رجال الدين تقديم أسماء عدد من الشخصيات المؤهلة لمنصب ملك على دولة العراق.  فتقدم الجميع بأسماء من كبار قادة العائلات والعشائر.  لكن البريطانيين اختاروا منفردين شخصاً لم يتقدم أحد بعرض اسمه بين الأسماء المقترحة هو الأمير فيصل ابن الشريف حسين قائد الثورة العربية.  ومعروف أن الأمير فيصل كان قد جاء قبيل ذلك في عام 1920 إلى دمشق لكي ينصّب ملكاً على الدولة العربية وعاصمتها دمشق مدعوماً من الحكومة البريطانية.  فاعترضت عليه فرنسا الدولة المنتدبة على سوريا ولبنان وفرضت عليه الخروج مهزوماً من دمشق، برغم ما كان قد لقيه من تأييد واسع من قبل الشخصيات السورية واللبنانية المدنية والدينية من مختلف الطوائف.  وكان البريطانيون باختيارهم الأمير فيصل يستندون إلى كونه ينتمي في جذوره إلى الهاشميين أسرة نبي الإسلام محمد.  وكانوا في الآن ذاته يحاولون الاعتذار متأخرين من الشريف حسين قائد الثورة العربية الذي خاض معارك ضد العثمانيين مدعوماً منهم وموعوداً من قبلهم بتأسيس دولة عربية بقيادته بعد انتهاء الحرب.

كان جعفر أبو التمن في ثورة العشرين وقبلها بأعوام يمارس النضال ضد العثمانيين أولاً ثم ضد البريطانيين في ما بعد.  كانت له شخصيته المستقلة.  واستناداً إلى موقفه الذي لم يتراجع عنه إزاء البريطانيين اعترض على تنصيب فيصل ملكاً على العراق مختلفاً مع رفاقه من قادة الثورة.  وكان منطقه في الاعتراض يستند إلى أن ملك العراق إنما يختاره العراقيون وينصّبونهم هم بأنفسهم.  وبذلك الموقف أكد جعفر أبو التمن تميّزه عن زملائه في قيادة الثورة وفي ما بعد في قيادة البلاد في عهد الملك فيصل.  ومعروف أن لأبي التمن تاريخاً سابقاً كما أشرت إلى ذلك في محاربة العثمانيين في عام 1914 والبريطانيين في ما بعد حتى عام 1920 عام الثورة.  واستمر أبو التمن في تميّزه ذاك على امتداد حياته حتى وفاته في عام 1945.  ظل يتمسك بالقيم التي اكتسبها من والده.  وأنشأ مع بعض أصدقائه "حزب الاتحاد الوطني".  وباسم ذلك الحزب ظلّ يتابع مواقفه اتفاقاً واختلافاً مع الملك فيصل ومع القيادات السياسية التي تسلمت السلطة بعد وفاته منها ابنه الملك غازي ثم الولي على العرش عبد الإله بعد وفاة غازي.  وكثيراً ما كان يصل الأمر بأبي التمن في اعتراضه على السياسات القائمة باعتزال العمل السياسي وإيقاف نشاط الحزب.  وكان في الآن ذاته يطور المدرسة الجعفرية التي كان قد أنشأها والده.  والمعروف أنه عمل بجد واجتهاد لتحويل تلك المدرسة إلى مدرسة حديثة أسوة بالمدارس الحديثة التي كانت قد بدأت تنشأ في عهد الملك فيصل الذي كان مولعاً بالعلم وبالمعرفة وبنشرهما في العراق بكل الوسائل.  وكنت في عام 1947 طالباً من طلاب تلك المدرسة في بغداد. 

وأعترف بأن المزيد من تعرفي بشخصية جعفر أبو التمن قد جاءني من خلال علاقة الصداقة التي ربطتني بابنه عزيز في الفترة التي كنت أقيم بها في العراق.  إلا أنني أود أن أنهي هذه التداعيات عن ثورة العشرين وعن أحد رموزها جعفر أبو التمن بالتذكير ببعض المبادئ الأساسية التي كانت في أساس تلك الثورة.  وهي مبادئ أوردها كما قرأتها في كتاب الباحث العراقي حامد الهمداني.  ويذكّر الهمداني في كتابه بالتوجهات التي كانت تصدرها قيادة الثورة إلى مناضليها وهي: 1- يتوجب على كافة الأفراد أن يفهموا بأن المقصود من هذه الثورة إنما هو طلب الاستقلال التام.  2- يجب أن يهتف الجميع للاستقلال في كل ميادين القتال.  3- يجب التمسك بالنظام ومنع الاعتداء.  فلا نهب ولا سلب ولا ضغائن قديمة ولا أحقاد.  4- يجب تأمين الطرق وحفظ المواصلات بينكم وبين مناطق الثورة.  5- بذل الهمة لحفظ الرصاص.  فلا يجوز إطلاقه في الهواء بدون فائدة.  6- يجب الاعتناء بالأسرى ضباطاً وجنوداً إنكليزاً كانوا أم هنوداً.  7- المحافظة على أعمدة الهاتف والأسلاك لضمان استمرار الاتصالات.  8- الاهتمام بقطع السكة الحديدية ونسف الجسور لمنع قوات الاحتلال من استخدامها.  9- الحفاظ على كافة وسائل النقل التي تقع في أيدي قوات الثورة والاستفادة منها.  10- المحافظة على الأسلحة المصادرة من العدو وإدامتها لغرض استخدامها ضده.  11- عند تحرير أي مدينة يجب الاهتمام بتشكيل إدارة وطنية لها والاهتمام بالأبنية الحكومية وعدم هدمها أو إحراقها والمحافظة على الوثائق فيها.  12- المحافظة  على المستشفيات وأدواتها وأجهزتها والأدوية الموجودة فيها.  13- الرفق بالجرحى وإسعافهم والاهتمام بهم والعمل على إنقاذ حياتهم.

واضح  من هذه التوجهات ذات الطابع الديمقراطي الحديث كم كان راقياً المستوى الذي مارس فيه قادة ثورة العشرين كفاحهم من أجل الحرية والاستقلال ضد البريطانيين.  وقدموا بسلوكهم ذاك نموذجاً فذاً للأجيال العراقية اللاحقة.  لكن التوجهات والمعنى الثوري الديمقراطي الذي عبّرت عنه لم تنتقل كما كان قادة ثورة العشرين يرغبون في ذلك إلى الأجيال العراقية اللاحقة ممن وصل منهم إلى السلطة وحتى ممن ظلّ يناضل في صفوف المعارضة يتابع الانتفاضات والثورات ضد أنظمة الاستبداد.  وربما يكون السبب في ذلك، وهو سبب وجيه لتفسير ما حصل وليس لتبريره، هو ما ساد في العهود العراقية اللاحقة من عنف واستبداد وقمع وحشي ردّت به السلطات على تلك الانتفاضات والثورات. 

 

increase حجم الخط decrease