الأربعاء 2017/12/20

آخر تحديث: 19:02 (بيروت)

حريات 2017: العهد العوني القوي.. على مَن؟

الأربعاء 2017/12/20
حريات 2017: العهد العوني القوي.. على مَن؟
فضح حرب الممارسات المستخفة بالقانون والمحقرة لمواده
increase حجم الخط decrease
في العام 1996، في ذروة الوصاية السورية على لبنان، كتب الصحافي الشهيد سمير قصير مقالاً بعنوان "الخطوط الحمر والنيات السوداء"، متحدثاً عن أن سمعة لبنان لم تعد تحتمل شعار "بلد الحريات"، وأنه رغم التقدم المسجّل آنذاك بموضوع الكلام أو رفع سقفه، إلا أنّ معظم الصحافيين أضحوا مقتنعين أنهم دخلوا عصر الديموقراطية على الطريقة المكسيكية أو المصرية، بما يعني حرية تعبير واحدة لا يحدّها إلا خط واحد أحمر. والخطوط الحمر كانت وقتها هي المسألة، قائلاً ما الموضوع الذي نمنع أنفسنا من طرحه؟ أو بالأحرى أين يبدأ المنع؟ هل ينحصر في أعلى الهرم؟ أم أنه يغطّي الهرم بأكمله؟

هذه الأسئلة استتبعها قصير لاحقاً بمقالات أخرى عن آلية خروج الصحافة من التدجين، وعن مدى سهولة تقنين الأصوات المعارضة عندما تكون مقاليد الإعلام الخاص بأيدي المتسلطين على الشأن العام، معتبراً أن الاتجاه السلطوي لتجريم الرأي ليس إلا تعدياً على الحريات، وهو أمر لحظه الدستور معتبراً اياه جريمة نكراء ومدانة، محذراً حينها من سير لبنان نحو الديكتاتورية وتحوله لدولة تحوير القانون، وبالتالي خرق الدستور ووجهة هذا البلد.

كلام قصير حينها سلّط الضوء على وضع الإعلام في زمن الوصاية والملاحقات، إلا أنّه يبدو صالحاً تماماً في ظل العهد الجديد، بل يمثل الواقع بأدق توصيفاته، خصوصاً في ما يتعلّق بالذهنية البوليسية التي تتعاطى مع قضايا الحريات محاولة العودة لفرضها على الجو العام، ما جعل الكثيرين يعتبرون أن ما نشهده اليوم ممن ممارسات سلطوية وتلاعب وتحايل في الإجراءات القانونية تعيدنا تماماً لعهد الوصاية وأجوائها. وما تعرّض له الإعلامي مرسال غانم ليس إلا تتويجاً للمحاولات الحثيثة الممنهجة الساعية لكمّ الأفواه ومحاولات القمع التي لا تفتأ تتفاقم، وتتزايد بشكلٍ مضطرد ومتسارع منذ انطلاقة العهد الجديد، الذي كشّر عن أنيابه مسخّراً مختلف أوجه سطوته السياسية، وجنّدها ضدّ الإعلامين والصحافيين والنشطاء والمعارضين. وتجلّى ذلك من خلال تصاعد وتيرة الاستدعاءات وكم الدعاوى القضائية والاستنابات التي سطرت ضدّ أصحاب الرأي والقلم بالجملة.

لكن السابقة الأخطر التي شاء العهد تسجيلها قبل ختام العام 2017، هو ما حصل مع الإعلامي مرسال غانم، والذي كشف عنه وكيله النائب والمحامي بطرس حرب، حيث عرض خلال مؤتمر صحافي تفاصيل ومجريات كشفت الستار عن سيناريو مرعب، وفضحت الممارسات المستخفة بالقانون والمحقرة لمواده من قبل من يفترض بهم أن يكونوا أمينين على تطبيقه وراعين لإجراءاته وموجباته، فإذا بهم يصبحون النموذج الأسوأ للممارسات التشبيحية واستخدام المناصب في خرقهم للقانون والاستخفاف به، بل وتحقيره، ما يطرح السؤال: هل يتصرف بعض القضاة في لبنان وكأنهم ضباط أمن في سلطة ديكتاتورية؟ وهل من المسموح أن تمرّ هذه التجاوزات الصارخة لهذا التعسّف الذي ينتهك أبسط حقوق أي مواطنٍ؟ وهل هذا هو النموذج الذي يريد العهد والقضاة تكريسه؟ وهل هذه الرسالة التي يبعث بها القضاء والعهد الى المواطنين من خلال إفهامهم بأنه يمكنكم تجاوز القانون والعبث به والخروج عنه من خلال استقوائكم بأي سند سياسي، دون أي تقدير للعواقب أو الخوف من المحاسبة؟

ما جاء على لسان حرب، والذي يوضح بلا أي لبس مدى توغّل وتغوّل سيطرة وسطوة السياسة على القضاء ينذر في ما اذا استمر بنتائج مهولة ومخيفة، قد تؤدّي إلى تغيير وجه لبنان وشطب سمة الحرية التي رافقته منذ انطلاقته عنه، ما يدعو إلى عدم التهاون في بتّ استقلالية السلطة القضائية عن السياسة، بعدما تجاوزت ممارستها ضد المعارضين وملاحقتها الإعلاميين خطوطاً حمراً لم يجرؤ أحد على تجاوزها، حتّى في زمن الوصاية.

العهد الذي أطلق في بدايته نوايا تكريس التوافق والوئام على المستوى السياسي انبرى لتطويق كل صاحب رأي مخالف، بالحصار تارة والترهيب تارة أخرى. ولم يفلت من ذلك حتى المواطنين العاديين الذين لم توفرهم السلطة لمجرّد نشرهم تغريدات أو منشورات تخالف رأيها أو ذوقها، وذلك من اختلاق مختلف التهم وابتكار مصطلحات لم نعهدها من قبل، مستندة لاتهامات ذات هالة ملتبسة، كالدعاوى القائمة على مسّ الذات الالهية والذم والتحقير، في ما بدا وكأن أجهزة السلطة باتت تعدّ على الناس كلماتهم وأنفاسهم، ويضيق صدرها بتقبّل أي نقد أو اعتراض.

سجلُّ السلطة والعهد بدأ مثقلاً بلوائحه السوداء، حتى بتنا نتوقع منها أن تفبرك تهماً منطلقة من انزعاجها فقط. فما هو الجرم الذي يبرر الأسلوب الذي تم التعاطي من خلاله مع الأسير المحرر أحمد اسماعيل والشاعر مصطفى سبيتي والنشطاء فراس بو حاطوم وباسل الأمين وأحمد أمهز وحسن سعد وعباس زهري وغيرهم، مروراً بتوقيف الصحافيين أحمد الأيوبي وفداء عيتاني، وحملة الترهيب الممنهجة التي مورست ضد الإعلامية ديما صادق والصحافية ديانا مقلد، وصولاً لإصدار مذكرة إحضار قضائية بحق مرسال غانم، الأمر الذي وصفه كل من يرى من الغربال بأنه إجراء كيدي ومسيس ويتعارض مع أدنى مستوجبات القانون.

مركز سمير قصير للدفاع عن الحريات الاعلامية والثقافية "سكايز" رصد أكثر من 30 انتهاكاً إعلامياً وثقافياً منذ بداية العهد، ما يُعتبر مؤشراً خطيراً خصوصاً أنها كلها كانت استهدافات من باب الانتقائية والاستنسابية، وأن اتهاماتها كتبت غبّ الطلب. فعلى سبيل المثال لا الحصر، لم نكن نرى أي تحرّك للقضاء في هذا الاتجاه حينما كان التطاول على مقام رئاسة الجمهورية أيام الرئيس السابق ميشال سليمان، ولم نكن نلحظ استهداف واستدعاء الصحافيين والناشطين بهذه الكثافة، فهل ما يحصل من قبل القضاء اليوم هو نشاط زائد ومكثّف؟ أم أن ما يحركه هو الدفع والتحريض السياسي؟ وهل من المصادفة أن يصمت المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع صمت القبور، وهو الذي كانت صرخاته تشقّ الآفاق من ادعاءه بحمل لواء الحريات الإعلامية وإنه القلعة التي تذود عنها وتصونها، وإنه المانع لكل من يجرؤ على التعدّي عليها؟ فهل تبخلون علينا اليوم حتى بالاستنكار؟! أم أنكم مجرد جهاز صوتي يُرفع ويخفض متى ما الجهة السياسية التي تتحكم به والموقف الذي تراه؟ وهل نشهد عدوى ما كان منحصراً من قمع في التيار البرتقالي، بانتقاله وبائه إلى كافة رموز السلطة وأجهزتها في أسلوب التعامل مع المعارضين؟

ربما قد يفهم الجميع الآن بأن معركة الحريات بدأ الحشد لها، ومع أنها شهدت في بدايتها تحركات خجولة ومتواضعة من قبل وسائل الإعلام والسياسيين، طوال الفترة السابقة، إلا أنّ تغوّل السلطة ووقاحة ممارساتها المكشوفة، جعلت من الحملة أكثر اندفاعاً وزخماً وتنظيماً واستقطاباً، كون هذه الممارسات دقّت ناقوس الخطر عند كل أطياف المجتمع الذين استشعروا بأن معركتهم هي ليست معركة صحافي أو إعلامي، بل هي معركة حرية. وإذ كان من درس خطّه التاريخ في لبنان فهو أنّ كل من وقف مع الحرية ارتفع وكل من حاربها سقط.  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها