الإثنين 2016/01/18

آخر تحديث: 17:05 (بيروت)

يبتسمن، يتمتمن اعتذارات، ويرحلن

الإثنين 2016/01/18
يبتسمن، يتمتمن اعتذارات، ويرحلن
أطفال عائلة سورية منتظرة في مطار بيروت (المدن)
increase حجم الخط decrease
حرامات سميكة ملوّنة لا تشبه نظرة القهر في عينيهن، ولا محاولاتهن للهروب من عيون حشرية ترصد حركتهن، تحصي أغراضهن وتراقب حركة أطفالهن. وحدهم الأطفال يلعبون ويقفزون من كرسي إلى كرسي ويركضون في بهو المطار. أما الأمهات، فيشعرن وكأنهنّ ينكمشن على أنفسهن ويحاولن أن يختفين ولا يزعجن أحداً برحيلهن وبأغراضهن التي غالباً ما تكون عبارة عن صناديق صُفّفت بعناية وأكياس كثيرة وبعض حقائب السفر.

تُسكت هذه الأم طفلها الذي يلهو بعيداً عنها غير آبه بنظرات الامتعاض من المسافرين الآخرين. المسافرون الذين لا يبتسمون ولا يعتذرون، بل يحدّقون في وجوه لا تعرف أين تخفي خجلها. بابتسامة ربما. تراهنّ يتمتمن اعتذارات غير مفهومة للعاملة التي تتأكد من بطاقات سفرهن.

تلتفت المرأة الثلاثينية، التي يحيط بها أطفالها الخمسة، لتعتذر من مسافرة وراءها راحت تتنفّس بصوت مفتعل معترضة على الوقت الذي تستغرقه هذه العائلة لتنجز أوراقها وترحل. وكأننا لا نريد من السوريين إلا أن يرحلوا عنّأ بطريقة غير شرعية لا تعكّر صفو رحلاتنا السياحية. حتى هاتين الساعتين وخلالهما نصطدم بهم في مطار بيروت نستكثرهما عليهم.

لا يسعني إلا أن أراقب. بحب وبقهر وبخجل وبعجز شديد. أقول لها: "خلص ما بقا رح تشوفيهون عنّا. ارتاحي وخففي تبحلق". ترقد الكلمات في حلقي ولا أقول شيئاً. بل أحاول أن أقلّدهن. أبتسم. أبتسم لتلك الأم الجبّارة رغماً عنها. كم أردت أن أقول لها "لا تعتذري. لا تعتذري لأحد. بل نحن الذين علينا أن نعتذر منك. منكن جميعاً. ارحلي بسلام". عبارة تقليدية لم أعرف حتى كيف أردّدها بصوت مسموع. أُسكت رأسي وأحاول أن أساعدها تلملم أغراضها.

في أحيان كثيرة، وأنا أتجه صوب الطائرة، أفكّر في الموت. أو تحديداً، ألعب مع الموت. أخترع ألعاباً إفتراضية. وكل مرّة أقول أنه عندما تطأ قدميّ الأرض، سأقصد غوغل وسأقرأ بالتفصيل عن تكنولوجيا الطيران كي أخفّف من وطأة إحساسي بعبثية الطيران وبالنجاة منه.

المهم، ألعب مع الموت. وغالباً ما تتخلل هذه الألعاب أسألة وأجوبة بسيطة. ومن هذه الأسئلة التي أرددها لنفسي كل مرة "عددي عشرة أشياء لا تستطعين الاستغناء عنها". أشياء، لا أشخاص، فالأخيرة تصنع من اللعبة لحظة درامية أنا في غنى عنها. وقد أزيد أو أنقص العدد.

أفكر في فنجان قهوتي. في الشال الأحمر الذي حيّكته لي والدتي. في الحَلَق الجديد الذي أهداني إياه وسام. أفكر في أجندتي الحمراء. في الكومبيوتر الذي يحمل الكثير من الصور. وأيضاً في حقيبتي المفضلة. سبع سنوات تلازمني حتى بتّ أخاف عليها من الزمن، فقررت أراحتها أحياناً مصطحبة أخرى سوداء تقضي حاجتها. أربعة أشياء أخرى: مخدتي والكيندل والكاميرا وجينزي المفضّل. عشرة اشياء ستشعرني بالألفة أينما كنت.

أتلصّص على أغراضهن، وخاصة أغراض الأطفال، وأتساءل إن كانت الأمهات على الأقل قد استطعن الاحتفاظ بغرض واحد محبّب إلى قلوبهن. غرض شخصي واحد. أين أزواجهن؟ أفكرّ. وأبتسم. أبتسم كالبلهاء هذه المرة. الأطفال يلبسون الثياب الأجدد ويقفزون بعيداً. ربما إلى حياة افضل. الأكيد إلى حياة أفضل من تلك التي وعدناهم بها. من تلك التي وُعدنا جميعاً بها.

أبتسم. ابتسامة أكثر بلاهة هذه المرة ،وأتذكّر مشاويري المحببة إلى الشام مع مهى. كنا نقصد زواريب الشام كلما ضاقت بنا بيروت. أذكر مرة أن صديقاً فلسطينياً من مخيّم اليرموك أشار إلى القصر وأخبرنا أن هذا "بيت الرئيس". سألت مهى بعفوية "أي رئيس؟"، وذلك لأننا كلبنانيين نطلق اسم "الرئيس" على كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب. ضحك وأجاب "ما عنّا غير رئيس. رئيس واحد".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها