الأحد 2013/09/22

آخر تحديث: 03:41 (بيروت)

الآباء والأبناء والعسكر

الأحد 2013/09/22
الآباء والأبناء والعسكر
إعلان "ليبراز"
increase حجم الخط decrease
   صورة لطفل في العاشرة من عمره تقريباً يؤدي التحية مرتدياً بزة عسكرية، إلى جواره حقيبة مدرسية بألوان الزي العسكري وحافظة ماء ومقلمة بالألوان ذاتها، كل ذلك على لوحة إعلان طرقي ضخمة. المشهد البصري هذا لا ينتمي إلى إعلان ترويجي في كوريا الشمالية، ولا هو من موسكو السوفياتية، أو من سوريا والعراق البعثيتين. بل يأتي المشهد من البلد الذي يوصف بأنه مركز الحريات والديموقراطية في الشرق الأوسط.. لبنان، وفي العقد الثاني من الألفية الجديدة.
 
هكذا، تستغل شركة "ليبراز" للقرطاسية والأدوات المدرسية الهوس الجماعي المنتشر بين فئات لبنانية بجيش بلادهم، من أجل الترويج لمنتجاتها بالتزامن مع الموسم المدرسي الجديد. لا يقتصر الأمر على الإعلان طبعاً، بل يُرى في فكرة تصميم أدوات مدرسية بألوان معسكرة، تذكر ربما بأجواء فيلم "القيامة الآن" لفرانسيس فورد كوبولا، أكثر مما تذكر بجو مدرسة ابتدائية أو إعدادية، يُفترض أن ابتسامة الطفل المحببة الظاهرة في الإعلان هي ما قد تحيلنا إليها.
 
الهوس الجماعي بالجيش والعسكر كان بلغ إحدى ذرواته في عيد الجيش، مطلع آب/ أغسطس الماضي، إذ ترافق مع ملصقات وإعلانات تمجد الجيش اللبناني، بل تحمل عبارات تظهره كحل خلاصي لكل مشاكل البلاد وأزماتها. من تلك العبارات: "الأمر لكم" و"وعدي إلك وحدك" و"الشعب يريد الجيش" و"إنت فصّل.. كلنا منلبس"، إضافة إلى الاحتفالية التي نظمت بالمناسبة ذاتها في ساحة الشهداء في بيروت. أحد الإعلانات التي روجت للاحتفالية تضمن مشهدا آخر لطفل يؤدي التحية العسكرية ويرتدي بزة عسكرية مع عبارة "أنا نازل إكبر فيهن، أنت شو نازل تعمل؟".
 
لا خلاف على دور أي جيش وطني في حماية البلاد، ولا خلاف على أنه إحدى أهم المؤسسات في أي دولة ديموقراطية أو غير ديموقراطية، وعلى كونه إحدى المؤسسات التي تحتكر ممارسة العنف الشرعي الذي قد يستخدم داخل حدود البلد. لكن العبارات التي ظهرت قبيل الأول من آب، تكرس الجيش كسلطة وحيدة ومطلقة (مشتهاة كسلطة في بلد تتوزع سلطاته على قواه الطائفية والحزبية، وليس حتى للمؤسسات المدنية كبير تأثير كمؤسسات منتخبة او "متفق" عليها وطنياً). استغل "الحلم المعسكر" هذا المواجهة حديثة العهد آنذاك مع الشيخ أحمد الأسير وأنصاره في مدينة صيدا، والدماء التي نزفت من جنده وضباطه. سلطة لا عين تراقبها ولا سلطة موازية تسائلها (أو هكذا أريد لها أن تكون) ولا تحاسب أي انتهاكات قد تصدر عن أفرادها، ولا دعوات أو إعلانات لاستعادة/تفعيل مؤسسات أخرى، قد لا تقل أهمية عن الجيش، كالقضاء أو المجلس النيابي أو هياكل أخرى في السلطة التنفيذية، ولا حتى لدور السلطة الرابعة في متابعة كل السلطات الأخرى، فالصحافة أيضاً صورة المرآة عن الانقسام السياسي.
 
لإعلان شركة "ليبراز" جانبه الجندري أيضاً، ليست مصادفة بكل تأكيد أن يتم اختيار طفل ذكر للأدوات ذات الطابع العسكري الألوان، فيما إعلان آخر للشركة نفسها وبالتوزيع البصري نفسه يظهر طفلة ترتدي زياً من الورود وبأدوات مدرسية مصممة بشكل يحاكي زيها وألوانه. الفتاة هنا هي ربما "باربي" لبنانية لا يبدو أنها ستهتم يوماً بالانضمام إلى المؤسسة العسكرية الذكورية حصراً.
 
تبقى المفارقة في أن السوريين الذين يدفعون ثمناً باهظاً من دمائهم في مواجهة مؤسستهم العسكرية هذه الأيام، يستعيدون بمرارة أو بسخرية، أيام دراستهم التي اضطروا خلالها إلى ارتداء زي عسكري كان يعرف ببدلات "الفتوة"، ويرمز بالنسبة إليهم إلى قسوة الحكم المطلق الذي خبروه جيداً، وإلى طفولتهم ومراهقتهم المسلوبة. فيما يندفع لبنانيون، يعرفون العسكر السوري جيداً، وبكامل إرادتهم، كي ترتدي فلذات أكبادهم بدلات "فتوة" بتصميم أجمل وثمن أغلى.
 
increase حجم الخط decrease