الإثنين 2013/05/27

آخر تحديث: 08:15 (بيروت)

معركة يارا الأخيرة

الإثنين 2013/05/27
معركة يارا الأخيرة
increase حجم الخط decrease
 الإعلامية الشابة تقفز أمام الكاميرا وتتبع الجنود إلى خطوط التماس مرتدية الخوذة والسترة الواقية، تقف خلف حائطٍ نصف مهدمٍ وتشيرُ لنا بيدها إلى أماكن تمركز "المسلحين" وهي تحبس أنفاسها بعد مسيرة طويلة على جبهات الحرب. كل معركةٍ كانت معركة يارا عباس وكل جبهةٍ مُشتعلة كانت بيتها، هي التي اختارت أن تكون مراسلة ميدانية لقناة "الإخبارية السورية".

الرصاصة لم تخطئ يارا عباس هذه المرة، استقرت في الرأس، لتنهي مسيرة الشابة في شمال القصير على الطريق المؤدي إلى مطار الضبعة، أكثر المناطق السورية سخونة في هذه الأيام. هناك حيث أنجزت تقريرها الأخير في القصير، أعلنت لنا من خطوط التماس أن "الجيش الباسل" على مشارف الحسم، وانطلقت شمالاً إلى معركةٍ أخرى، معركتها الأخيرة.
 
"يارا لم تكن شبيحة" تؤكد زميلتها لـ"المدن" (وهي مراسلة سابقة للمحطة رفضت نشر اسمها)، وتتابع: "كانت مؤيدة للتظاهرات السلمية في البداية، وتغيّر موقفها مع العسكرة". يُجمع الراثون ليارا، على الصفحات الموالية أيضاً، أنها كانت مهووسة بعملها، ومستعدة لأن تذهب إلى الخطر في أقصى حدوده كي تأتي بالخبر. وعن الأسلوب "الإنشائي" في التقارير الإخبارية، والذي لطالما اعتبره البعض فظاً، تقول زميلة يارا: "هذا كليشيه تفرضه سياسة المحطة، ولا تتعلق بالرأي الشخصي للإعلامي... عندما تكون على الخطوط الأمامية للجبهة، فلا مجال سوى أن تحتكم إلى هذه الصيغة التي تؤله الجيش وانتصاراته"، وتضيف: "هذا ما يطلبه متابعو المحطة".
 
وسبق للمراسلة الشابة أن استُهدفت من قبل المعارضة في حلب ونجت لُتكمل مهمتها، تلك المهمة التي شغلتها عن "فايسبوك" ومواقع التواصل الاجتماعي. عندما نزور صفحاتها لا نرى الكثير من الأنشطة. كتبت تعرف بنفسها: "لا شيء يربطني بهذه الأرض إلا الحذاء"، وكان آخر ما نشرته في الشهر الأول من هذا العام، اقتباس من أحلام مستغانمي: "أتراه الأسود يليق بي أنا الأخرى؟". ووضعت أيضاً علم سوريا ذا النجمتين كصورة "كوفر" لصفحتها. 
 
وإذ كان من غير المُقنع ألا يكون ولاء الإعلاميين مضموناً في محطة محسوبة على النظام، خصوصاً في حالة يارا، التي تنتشر صورها على الانترنت مع بشار الأسد وزوجته. لكن، من المهم بمكان، أن نشير إليها بوصفها كالجندي الذي أرسل إلى الميدان ليقاتل سورياً آخر. فسواء كان الإثنان على قناعة مُطلقة، أو كانا مترددين غير حاسمين في خياريهما، ففي الحالتين هما ضحيتان. واللافت هنا أن أدوات القتل التي يستخدمها النظام هي قاتل وضحية في آن واحد. كانت يارا توجّه كلمات كرصاص الجنود في تقاريرها، لتدور الدورة وتصبح هي ضحيّة. كانت تقاريرها "نارية" من أرض موجّهة إلى طرف دون آخر على أرض المعركة. وقُتلت كما يقتل الجنود. هذه الدورة لن تتفكك إلّا بانشقاقات عن بنية النظام بأكملها.
 
يارا ابنة الـ26 ربيعاً، القادمة من الريف الحمصي إلى جامعة دمشق، ثم إلى الراديو والصحافة المكتوبة، وأخيراً إلى الشاشة الصغيرة في بدايات 2012، أعادها التلفزيون إلى ريف حمص مجدداً لتلقى حتفها هناك، بشجاعة كُل الإعلاميين الذي قضوا على أرض سوريا خلال العامين الماضيين. هي في النهاية، إنسانة تحمل ميكرفوناً وتركض أمام الكاميرا لتخبرنا عمّا يحصل، من وجهة نظرها، غير آبهة بالخطر المحدّق بها. إنسانة تقدّس قيمة العمل فتقدم نفسها شهيدةً من أجله، لا نقوى إلا أن نحزن ونترحم عليها.
increase حجم الخط decrease