السبت 2014/08/09

آخر تحديث: 23:55 (بيروت)

قصتي مع الشاعر الجواهري

السبت 2014/08/09
increase حجم الخط decrease

3

 

 

 

 

كانت الأشهر الستة الأولى من عام 1949 في بغداد قبل ان أغادرها عائداَ إلى لبنان في شهر تموز تعيش تحت تأثيرات نكبة فلسطين والنكسة التي منيت بها "الوثبة".  مع العلم بأن "الوثبة" ذاتها لدى قيامها ولدى انتصارها وفق الأحلام الطوباوية التي كانت تستولي على الذين قاموا بها، جعلتني في تقييمي لها لاحقاً أشبهها بكومونة باريس، برغم الاختلاف الجوهري في الظروف وفي الزمن وفي الآليات وفي الوقائع بين الحركتين.  وكان قد أعقب إعدام قادة الحزب الشيوعي العراقي ما اشتهر باعترافات أحد قادة الحزب مالك سيف، التي جمعتها المخابرات في ستة مجلدات حافلة بالكثير مما ارتبط بمواقف الحزب في بياناته الرسمية وفي مواقف قادته وعمّمتها بين الناس بهدف التشهير بالحزب.  لكنها سرعان ما اكتشفت أنها بتعميم تلك الاعترافات التي تضمنت مواقف الحزب إنما كانت تقدم في شكل مجاني الدعاية للحزب الشيوعي ولسياساته.  فسارعت إلى سحبها من التداول واعتبرت اقتناءها مادة جرمية.  لكن الحياة في البلاد كانت طبيعية في مؤسسات الدولة وفي مختلف ميادين النشاط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وفي عمل الأحزاب، المرخص منها والسري، كل منها على طريقتها السابقة في العمل والنشاط.  وأذكر أن حسين مروة كان قد أصدر في مطالع ذلك العام جريدة تحمل اسم "السيار" كان لي فيها مقال بعنوان "لن تغفر الشعوب"، لم يصدر منها سوى عدد واحد، إذ سارعت السلطات إلى إقفالها، وإلى سحب الجنسية العراقية من منشئها حسين مروة وإخراجه من العراق.  وبدأت العائلة، وأنا أحد أفرادها، تعد العدة للحاق به بعد انتهاء العام الدراسي.  فتابعت دراستي في الاعدادية المركزية، وتابعت في الآن ذاته علاقاتي مع المثقفين الذين كانت قد تكونت لي علاقات صداقة معهم، وكان من ضمنهم الشعراء بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وبلند الحيدري وأكرم الوتري والفنانون التشكيليون خالد الرحال ونزار سليم ونوري الراوي والأدباء عبد القادر البراك وعبد الملك نوري وذو النون أيوب وابراهيم اليتيم وناجي جواد الساعاتي.  وتابعت علاقاتي مع عائلة الأديب اللبناني العراقي محمد شرارة الذي كان قد تم اعتقاله، ومع اللبناني العراقي محمد حسن الصوري مؤسس مجلة "الحضارة"، ومع بعض الإعلاميين ممن كانوا يشرفون على جريدة "الأهالي" لسان حال الحزب الوطني الديمقراطي الذي كان يرأسه كامل الجادرجي، وجريدة "الأخبار" لصاحبها عبد الهادي الجلبي التي كنت أنشر فيها بعض مقالاتي الأدبية.  لكن علاقتي بالجواهري كانت لها منذ البداية نكهتها الخاصة.  وكان يتعامل معي أنا ابن التاسعة عشرة عاماً في ذلك التاريخ كما لو كنت واحداً من جيله.  وهو ما جعلني شديد الاعتزاز بتلك العلاقة. 

وأذكر أنني لبيت دعوة لحضور حفل تكريم عميد كلية الطب الدكتور هاشم الوتري في نادي "المسبح" في كرادة مريم جنوب شرق بغداد الذي أقيم في مطالع شهر تموز.  ذهبت برفقة الجواهري مع صديقي عزيز أبو التمن ابن جعفر أبو التمن أحد زعماء ثورة العشرين في سيارته البويك التي كان يقودها، وكان رابعنا الأديب العصامي اجي جواد الساعاتي.  أخذنا مقاعدنا نحن الأربعة في المكان المخصص لنا في النادي.  وكان الجواهري أحد الذين كانوا مدعوين للتكلم في حفل التكريم.  وكان النادي يغص بعلية القوم من كبار المسؤولين وفي مقدمتهم الوصي على عرش العراق الأمير عبد الإله ورئيس الحكومة آنذاك أرشد العمري، كما أذكر، ونوري السعيد والعديد من الوزراء.  وعندما جاء دور الجواهري للكلام ذهب شامخ الرأس وألقى قصيدة رنانة مدح فيها المكرّم وتهجم على أركان الحكم بكلام حاد وصريح لا يقبل التأويل.  وعاد إلى حيث كان في مقعده معنا نحن الأربعة.  وفور وصوله إلينا متوتراً سارع إلى تمزيق الأوراق التي تحوي القصيدة وألقاها تحت الطاولة.  وبعد لحظات انحنيت ولملمت القصاصات وووضعتها في جيبي من دون أن ألفت الأنظار.  وعدنا بعد انتهاء الاحتفال كما جئنا إليه وأوصلنا الجواهري إلى منزله، وجلسنا نحن الثلاثة في منزل عزيز أبو التمن الكائن في شارع أبي نواس نتداول في ما يمكن أن تؤول إليه الأمور بالنسبة للجواهري بعد قصيدته، ثم خرجنا كلّ منا إلى منزله.  وكنت أقيم مع عائلة حسين مروة في مدينة الكاظمية الواقعة في ضاحية بغداد الجنوبية على ضفاف نهر دجلة.

علمنا في الصباح أن الجواهري اقتيد في تلك الليلة بالذات إلى أحد المراكز الأمنية معتقلاً.  فرتّب عزيز أبو الثمن على الفور، بحكم العلاقات التي كانت تربطه بالعديد من المسؤولين، زيارة للجواهري بأمر من مدير التحقيقات الجنائية بهجت عطية.  فزرناه نحن الثلاثة عزيز وناجي جواد وأنا  في مكان اعتقاله.  وكان ذلك المكان غرفة بكاملها مخصصة له بكل ما يحتاجه من أمور حياته اليومية.  لكن الجواهري لم يبق في الاعتقال إلا أياماً معدودات لأنه لم يعترف بما اتهم به.  ولم تكن القصيدة بين يديه، ولم تحصل المخابرات على نصها.  وقمنا نحن الثلاثة بزيارة أحد المعتقلات التي كان يقيم فيها الأديب محمد شرارة وعدد من المثقفين والمناضلين الشيوعيين.  وغادرت بعد الزيارتين بغداد إلى لبنان.  وفور وصولي مع العائلة جلست مع حسين مروة وابنه نزار نرمم قصاصات الورقة التي كتبت فيها القصيدة.  وعندما أكملنا مهمة تركيبها وترتيبها ذهبت إلى جريدة "التلغراف" وقدمت لرئيس تحريرها نسيب المتني القصيدة للنشر.  وأفقنا صباح اليوم التالي على القصيدة منشورة على صدر الصفحة الأولى بنصها الكامل.  وعلمنا بعد يومين من نشر القصيدة أن الجواهري أعيد إلى الإعتقال بالجرم الذي هو القصيدة.  وهكذا كنت بالنسبة إليه المسؤول عن إعادة اعتقاله.  وهو ما اعترفت له به عندما التقينا في آخر العام ذاته لدى عودته من رحلة قادته إلى فرنسا التي أغرم بها وبإحدى حسناواتها ونظم بالإثنتين قصيدتين من أجمل قصائده.

وفيما يلي بعض أبيات من تلك القصيدة التاريخية التي قادته إلى السجن:

إيه    "عميد  الدار"   كل      لئيمة           لا  بد  واجدة    لئيماً     صاحبا

ولكل    "فاحشة"   المتاع     دميمة           سوقٌ  تتيح  لها   دميماً  راغبا

ولقد  رأى  المستعمرون      فرائساً            منا، وألفَوا  كلب    صيد  سائبا

فتعهدوه،  فراح   طوع      بنانهم             يبرون   أنياباً   له       ومخالبا

                                 

أعرفت   مملكة   يباح    "شهيدها"            للخائنين   الخادمين      أجانبا؟

مستأجَرين      يخربون      ديارهم             ويكافأون على الخراب   رواتبا

متنمرين     ينصبون      صدروهم             مثل السباع  ضرواة     وتكالبا

حتى إذا  جدت وغى      وتضرمت              نارٌ     تلف   أباعداً     وأقاربا

لزموا "جحورهم"   وطار حليمهم              ذعراً،   وبدلت  الأسود أرانبا

 

في عام 1950 تلقى الجواهري دعوة من آل كرامي في لبنان لإحياء الذكرى السنوية الأولى لوفاة عميد العائلة عبد الحميد كرامي الرئيس الأسبق للحكومة اللبنانية في مطالع العهد الاستقلالي.  فلبّى الدعوة وألقى قصيدة رنانة شبيهة بتلك التي قادته إلى الإعتقال في تكريم هاشم الوتري.  وكنت مع حسين مروة وعدد من أصدقائنا المشتركين نحضر ذلك الاحتفال.  وفيما يلي مقطع من تلك القصيدة:

باق   -  وأعمار الطغاة   قصار -             من سـفر  مجدك   عاطر    موّار

عبد الحميد  وكل  مجد      كاذب             إن لم يصن  للشعب  فيه   دمـار

والمجد أن تهدي   حياتك    كلها              للناس    لا برم     ولا      إقتار

والمجد أن يحميك  مجدك  وحده               في الناس.. لا شرط  ولا    أنصار

والمجد إشعاع  الضمير   لضوئه              تهفو القلوب وتشخص     الأبصار

والمجد   جبار  على        أعتابه             تهوي الرؤوس .. ويسقط   الجبار

 

كان في مقدمة حضور الاحتفال التكريمي ذاك رئيس الحكومة رياض الصلح وعدد من الوزراء والعديد من الشخصيات السياسية والاعلامية.  وقد أثارت القصيدة حفيظة رئيس الحكومة رياض الصلح فأعطى الأمر للسلطات بإخراج الجواهري من البلاد ووضع اسمه على لائحة الممنوعين من دخول لبنان.  لكننا نحن أصدقاء الجواهري تابعنا الاحتفاء به في العاصمة بيروت وفي منطقة الجنوب قبل أن يأتيه الأمر بالمغادرة.  وكنا حسين مروة وأنا ومثقفين محسوبين على الحزب الشيوعي اللبناني الذين قمنا بتنظيم ذلك الاحتفاء به.  فاعتبر الجواهري أننا نحن الشيوعيين كنا المسؤولين عن القرار الذي اتخذته السلطات بحقه، ولم نستطع إقناعه بأن قصيدته وما جاء فيها من عبارات قدح وذم بالمسؤولين اللبنانيين، أسوة بما كان قد فعله في قصيدته في تكريم هاشم الوتري، قصيدته تلك هي السبب في ذلك القرار.  وظل على امتداد حياته يعاتبني كلما التقيته مصراً على تحميلنا المسؤولية عن القرار الظالم الذي اتخذته السلطات اللبنانية بحقه.  لكن قرار المنع ذاك لم يمنع الجواهري من القيام بزيارتين إلى لبنان، الأولى للاحتفال بتكريم شاعر لبنان الكبير الأخطل الصغير في أواسط ستينات القرن الماضي بدعوة من سعيد عقل، والثانية في أول تسعينات القرن عندما جاء للمشاركة في مؤتمر المعارضة العراقية بعد غزو صدام حسين للكويت وعشية الحملة الأميركية لتحرير الكويت من ذلك الغزو.

تلك هي قصتي مع الجواهري في بدايات علاقتي به تلتها قصص أخرى من أنواع مختلفة من دون أن تؤثر على الصداقة التي ربطتني بعملاق الشعر العربي.  وهي صداقة امتدت خمسة وأربعين عاماً وشكلت مصدر اعتزاز كبير بالنسبة إليّ.  وكان آخر لقاء بيننا ذلك اللقاء الجميل الذي جرى في عام 1994 في منزله في دمشق.  كنا ثلاثة هو وصهره جمال الجواهري وأنا.  امتدت السهرة حتى الصباح قرأ لنا الجواهري فيها العديد من قصائده والعديد من روائع الشعر العربي القديم.  وقدم لي في نهاية السهرة الجزء الثاني من كتاب ذكرياته بعد أن كان قد قدّم لي الجزء الأول عربون صداقة خالدة.  وقد غادر الجواهري الحياة بعد ذلك اللقاء بثلاثة أعوام.  وكان الحزن قد بلغ عنده مبلغاً كبيراً بسبب ما أصاب عينيه من خلل منعه من القراءة.  وقد شكا لي ذلك خلال لقائنا الأخير.  وفي عام وفاته (1997) بعد أن كان قد بلغ المئة عام من العمر قمت مع بعض الأصدقاء بتنظيم تكريم كبير له في قاعة عصام فارس في الجامعة الأميركية تكلّم فيه عدد من كبار أهل الأدب والشعر في العالم العربي هم الشاعران سعيد عقل وعبد الوهاب البياتي والعلامة السيد محمد حسن الأمين والأدباء محمود أمين العالم وحنا مينا ومحمد دكروب.  وكانت كلمة الختام لحبيب صادق باسم المجلس الثقافي للبنان الجنوبي.

increase حجم الخط decrease