الثلاثاء 2014/08/05

آخر تحديث: 21:05 (بيروت)

"الوثبة".. تاريخ عراقي باهر !

الثلاثاء 2014/08/05
increase حجم الخط decrease

لـ"الوثبة" في تاريخ العراق الحديث مكان مضيئ مستعصٍ على النسيان في وجدان الشعب العراقي وفي وجداني أنا الشاب اللبناني المهووس بحب العراق.  وأشهد أنني تعلمت الكثير من تلك الفترة الزمنية القصيرة التي أمضيتها في العراق في أواخر أربعينات القرن الماضي )1947  - 1949).  ومن غرائب الصدف التاريخية في حياتي أنني، بعد شهرين من وصولي إلى العراق واندماجي السريع في هموم شعبه وطموحات وأحلام شبابه ومثقفيه ومناضليه الديمقراطيين، إنني كتبت مقالاً بعنوان "لا بد منثورة" أرسلته بالبريد إلى هيئة تحرير جريدة "الرأي العام" التي كان يصدرها الشاعر محمد مهدي الجواهري، من دون أن أخبر بذلك حسين مروة.  فوجئت وفوجئ حسين مروة في اليوم التالي عندما وجدنا المقال منشوراً في صدر الصفحة الأولى من الجريدة بنصه الكامل وتحت العنوان ذاته.  كان ذلك في أواخر شهر كانون الأول من عام 1947.  

وفي الحقيقة فقد كنت قبل ذهابي إلى العراق مهموماً بما كان يجري في بلدي لبنان وفي سائر بلدان العالم العربي، ومهموماً بقضية فلسطين على وجه التحديد التي رافقتني منذ الولادة في بلدتي الجنوبية "حاريص" المتاخمة للحدود مع شمال فلسطين.  وكان ذلك المقال هو التعبير العفوي  عما كنت عليه من قلق وثورة في تلك الفترة من شبابي الباكر.  وقد قادني ذلك المقال إلى التعرف بواسطة حسين مروة إلى الجواهري.  وسرعان ما أصبحت أحد محرري جريدته "الرأي العام" مندوباً لها في المجلس النيابي مع شخص آخر.  ثم كلفت في فترة لاحقة بتصحيح بروفات المقالات والتحقيقات  في مطبعة الجريدة.  وخلال أسابيع قليلة من عملي في الجريدة بدأت أشهد ارتفاع حدة الصراع السياسي بين القوى اليسارية والقومية والديمقراطية وبين السلطة في شخص ولي العهد الأمير عبد الإله ورئيس الحكومة في ذلك التاريخ نوري السعيد.   ولم يلبث ذلك الصراع أن انفجر في الشارع في أواخر شهر كانون الثاني من عام 1948.  وعمّت المظاهرات شوارع العاصمة بغداد مطالبة بإسقاط معاهدة "بورتسماوث" وإسقاط حكومة صالح جبر الذي وقع المعاهدة.  فاستقال تحت تأثير حركة الشارع عدد من النواب كان الجواهري من ضمنهم.  وتحوّلت بغداد بسرعة استثنائية إلى ساحة مظاهرات وإلى ساحة قمع للمتظاهرين بالرصاص الحيّ.  وقد قادتني مشاعري الملتهبة إلى الانخراط في إحدى المظاهرات الأولى التي نظمها طلاب جامعيون أمام المكتبة العامة في منطقة "باب المعظم" قبالة "معهد الملكة عالية".

استمرت المظاهرات عنيفة بضعة أسابيع.  فاضطرت السلطات إلى إقالة رئيس الحكومة وإلى حل البرلمان وإلى تكليف رجل الدين الشيعي محمد الصدر بتشكيل حكومة جديدة والإعلان عن تجميد القرار الخاص بالمعاهدة العراقية البريطانية.  وكان ذلك في حينه انتصاراً باهراً للمعارضة لم يسبق أن شهدته الصراعات السابقة في تاريخ العراق الحديث.  وقد كنت شاهداً حياً خلال عام 1948 وخلال النصف الأول من عام 1949 على تلك الأحداث جميعها التي شهدها العراق قبل "الوثبة" وخلالها وبعدها.  وهي ما تزال تعيش في تفاصيلها في ذاكرتي وفي وجداني.  فهي أحداث يصعب تفسيرها وفهمها، ويصعب بالنسبة إليّ تصوّر المآل الذي آلت إليه.

خرجت في أعقاب ذلك الانتصار الشعبي الباهر وباسمه جميع الأحزاب اليسارية والقومية من الأماكن المغلقة التي كانت تمارس نشاطها من داخلها إلى رحاب الحرية.  وامتلأت البلاد بالصحف وبالكتّاب وبالكتابات التي كانت تتناول كل القضايا المتصلة بحاضر العراق وبمستقبله.  وترافق ذلك مع مظاهرات ملأت الشوارع ليل نهار تهتف مطالبة بتحقيق الكثير مما كان الشعب بمختلف فئاته بحاجة إليه، من أكبر تلك القضايا وأعقدها إلى أكثرها بساطة.  وكان كل هتاف يبدأ بالسؤال بأعلى الصوت من قبل أحد المكلفين بذلك: ماذا تريدون؟  فتردد الجماهير: نريد كذا وكذا كذا!    وسرعان ما بدأ المتظاهرون يتصارعون وهم يتظاهرون بين تيارين الأول يساريّ شيوعيّ والثاني قوميّ.  وكان يدور الصراع حول نوع الهتاف وحول المطالب وحول الشعارات.  وكان كل من الطرفين المتصارعين في الشارع يسعى بواسطة الجماهير إلى الانتصار على الآخر.  واستمر ذلك الصراع يتفاقم ويتطور في شكل ديمقراطي على امتداد بضعة أشهر.  وتعطلت مرافق الحياة بفعل استمرار تلك المظاهرات والصراعات داخلها.  ورغم أن التيار اليساري الشيوعي كان الأقوى في الشارع، وكنت شاهداً على ذلك، وكان الأكثر وضوحاً في شعاراته، وكان الأكثر تنظيماً، إلا أن الصراع ذاته بحدته كان الأقوى من كل الإرادات  الطيبة عند جميع الأطراف.  وكانت السلطات تتابع باهتمام مجرى الأحداث وتتهيّأ لاتخاذ قرار لم تتأخر بالإفراج عنه في الوقت الذي رأته ضرورياً.  وكان ذلك في الفترة التي كانت قد قررت فيه الحكومات العربية ومن ضمنها الحكومة العراقية خوض الحرب ضد "العصابات الصهيونية" لمنع تنفيذ قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين.  فاستنفرت الحكومة العراقية قواتها المسلحة واستنفرت قواها الأمنية.  وبدأت تعدّ العدة للمرحلة الجديدة الآتية.  وإذ عادت الجيوش العربية الستة مهزومة من حربها الهوجاء ضد تلك "العصابات الصهيونية" فقد كان من القرارات التي اتخذتها السلطة الملكية العراقية تغيير حكومة الصدر وتشكيل حكومة جديدة من النوع الذي كان سائداً في الفترة السابقة.  وكان من أوائل ما اتخذته الحكومة الجديدة من قرارات تهجير اليهود العراقيين إلى إسرائيل بحجة اكتشاف عميل اسمه "عدس" ونهب مؤسساتهم وبيوتهم وحرمانهم من كل ما كان حقوقاً لهم كعراقيين في شتى المجالات، وقدمتهم الحكومة العراقية بكل الكفاءات التي كانوا يتميزون بها في شتى ميادين المعرفة خدمة مجانية إلى إسرائيل التي كانت بحاجة إلى أمثالهم في مرحلة تأسيسها.  وبدأت الحكومة ذاتها حملة قمع ضد المعارضة اتخذت أشكالاً مختلفة وطالت العديد من قياداتها.  وكان للشيوعيين النصيب الأكبر من ذلك القمع تمثل باعتقال العديد من قياداتهم وكوادرهم وتنفيذ حكم الإعدام بالأمين العام للحزب "فهد" ومعه ثلاثة من قادة الحزب هم حسين الشبيبي وزكي بسيم ويهودا صدّيق.  وكان من بين الذين طاولهم الاعتقال عدد من المثقفين الكبار في مقدمتهم الجواهري.  ولاعتقال الجواهري قصة سيكون لها مكان خاص في هذه التداعيات.  

في ذلك التاريخ بالذات الذي كانت فيه التحولات تضج وتتزاحم في عقلي وفي مشاعري وجدتني فجأة أمام قرار حاسم بالانتماء فكرياً وثقافياً وسياسياً إلى الشيوعية.  وهو قرار اتخذته من تلقاء ذاتي ومن دون استشارة أقرب الناس إليَّ حسين مروة الذي كان بالنسبة إليَّ أبي الثاني بكل المعاني.  لكن حسين مروة بالذات كان أول المرحبين بقراري المفاجئ له طالباً مني عدم التهوّر واستخدام العقل في ذلك الظرف العصيب.  لكنني أقدمت على الانخراط في خلية حزبية من دون استشارته ومن دون أن أحسب حساباً لكوني لبنانياً.  وعندما علم حسين مروة بقراري اقترح عليَّ أن أخرج من ذلك الانتظام الحزبي لألّا أتعرض بصفتي لبنانياً إلى ما لا تحمد عقباه.  فنفذت قراره وانسحبت من تلك الخلية التي كان لي فيها شريك هو باسل الجادرجي ابن الزعيم العراقي كامل الجادرجي رئيس الحزب الوطني الديمقراطي الذي كانت خليتنا تجتمع في منزله.  وفور خروجي من الانتظام الحزبي فوجئت باتصال أحد قادة الحزب الشيوعي الأستاذ الجامعي محمد عبد اللطيف يقترح عليَّ أن نلتقي.  فلبّيت طلبه وصرنا نتمشى على طول شارع الوزيرية المعروف بشارع السفارات لنتحدث في شتى القضايا وليجيب عن الأسئلة التي كانت تقلقني.  وأدركت بعد فترة أن الرفاق في الحزب اختاروا تلك الصيغة في علاقتي بالحزب بديلاً من الانتظام في إحدى خلاياه.  وكنت سعيداً بذلك.  

هكذا أتيح لي أن أشهد خلال العامين الذين قضيتهما في العراق نكبتين في عام واحد، نكبة فلسطين التي تتحمل مسؤوليتها الحكومات العربية جميعها ومن ضمنها الحكومة العراقية، ونكبة القوى اليسارية والقومية والديمقراطية في انتكاسة "الوثبة" التي تتحمل تلك القوى المسؤولية كاملة عن انتكاستها.  إذ هي غرقت بانقساماتها وصراعاتها وصارت ضحية عدم قدرتها على تحديد المهمات الواقعية التي كانت تقتضيها تلك الظروف من أجل جعل الانتصار الباهر الذي حققته "الوثبة"  قادراً على الثبات والرسوخ.  وتلك كانت مأساة تلك الحقبة من تاريخ العراق الحديث.

increase حجم الخط decrease