الأربعاء 2015/04/22

آخر تحديث: 13:06 (بيروت)

الأبنودي الذي عانده شعره وأقسم عليه فأجاب

الأربعاء 2015/04/22
الأبنودي الذي عانده شعره وأقسم عليه فأجاب
شعره يرتقي الى مرتبة العارفين
increase حجم الخط decrease

"أماية/ وانتي بترحي بالرحى/ على مفارق ضحى/ -وحدك- وبتعددي/ على كل حاجة حلوة مفقودة/ ماتنسنيش يامه في عدودة/ عدودة من أقدم خيوط سودا في توب الحزن/ لاتولولي فيها ولا تهللي/ وحطي فيها اسم واحد مات".. مات عبد الرحمن الأبنودي، من دون أن ترثيه أمه، أو أن يطل برأسه ليؤكد أنه حي.

ليس أقسى على الشاعر من أن يضطر إلى مواجهة شعره، بلا حيلة؛ أن يقول: "إذا جاك الموت يا وليدي/ موت على طول"، بينما يمكث في انتظاره، محاصرًا، لأسابيع متتالية، بشائعات عنيفة حول رحيله، ثم لا يجد في نفسه حيلة إلا أن يطل بين الأيام ليقول: "أنا الأبنودي.. أنا حيّ وبخير"، وما أن يدق الموت بابه –فعلا- "يفتح له"، ليرحل هادئًا وفي صخب، صخب انتظار تكذيبه للخبر.

"الخواجه لامبو مات في أسبانيا"، لكن الأبنودي المولود في قنا (1938)، مات بعيدًا منها، في رحلة جابت به مصر من أقصاها إلى أقصاها، فالشاعر الذي جاء من الصعيد واستقر في القاهرة المركزية، وحقق جلّ شهرته فيها، اضطرته الظروف الصحية للاستقرار في محافظة الإسماعيلية (شمالي مصر)، لأن هواءها يناسب رئتيه، في رحلة مشابهة في كثير من الأحيان لرحلات "العارفين/الأولياء"، وإن كان الأبنودي قد أثار في حياته العديد من التساؤلات حول مواقفه السياسية التي وصفها البعض بالانتهازية، إلا أن شعره يرتقي إلى مرتبة "العارفين" بين أقرانه.

وكأن الأبنودي جسدًا/صوتًا، وروحًا/ شعرًا؛ شخصيتين منفصلتين، ظلتا في مواجهة دائمة، وبعدما رحلت الأولى، أمس، ستبقى الثانية في عين التاريخ الشعري وقلبه، حيث تجلت مقدرته الشعرية في لمسه أوتار العاطفة الإنسانية وأنطقت أصوات الحماسة الوطنية ما بين الانتصار والانكسار، في آن، فلا هو الشاعر الحماسي الذي تورط في المباشرة ولا الفنان البوهيمي الذي انزوى بفنه عن الشارع.

وفي حين ظهرت كل الأغاني والقصائد عقب النكسة، إما مغرقة في الكآبة والانهزامية أو السخرية من القيادة السياسية، خرج هو ليقول "يا هل ترى الليل الحزين/أبو النجوم الدابلانين/أبو الغناوي المجروحين/ يقدر ينسيها الصباح/أبو شمس بترش الحنين/ أبدًا بلدنا للنهار/بتحب موال النهار". ولعل ذلك الحس في شعره المكتوب، إضافة إلى اشتغاله بكتابة الأغنية، للكثير من المطربين، وعمله مع الموسيقار الراحل بليغ حمدي، على خلق أغنية شعبية حقيقية، هو ما جعل الأبنودي الشاعر الأقرب إلى ذهنية الشعب العربي، وأكثرهم تأثيرًا، فقد أولى الأغنية الاهتمام نفسه بالقصيدة، وظهرت الاثنتين بالشعرية نفسها، وربما يكون ذلك السبب وراء تلقيب كتاب الأغاني أنفسهم بالشعراء، رغم التباين بين أي أغنية والقصيدة.

لكن  يبدو أن تلك المقدرة الشعرية، التي ارتبطت بالهمّ القومي والإنساني عند الأبنودي، تأبى إلا أن تضعه في ذلك التحدي بين ما يقول وما يفعل، أو ما يآمل وما يتحقق فعلًا، فالذي كتب "خايف أموت من غير ما أشوف/ تغير الظروف/ تغير الوشوش/ وتغير الصنوف/والمحدوفين ورا/ متبسمين في أول الصفوف"، رحل والحال الاجتماعي في مصر ما زال يغط في الظروف السيئة نفسها التي كتب فيها تلك القصيدة، إن لم يكن أكثر سوءًا.

وإن كان من الطبيعي أن يبقى الشعر الجيد مدى الدهر، ينادي بالأفضل، ويحرض على بلوغه، وبالرغم من أن شعر الأبنودي كان عنيدًا معه، إلا أنه احتفظ لنفسه بدرجة أخيرة، تجاوزت ما يسمى بالاستشراف الشعري، كما لو كان شعره قسمًا أجيب، فقد رحل "الخال" إلى مثواه الأخير في الليل، وتحديدًا في ليلة بلا قمر، في اليوم الثاني من شهر رجب الهجري، والبدر فيه ما زال جنين الليل، فيما غاب عن حمل نعشه أي من عواجيز السياسة أو شبابها، انتهازيين كانوا أم شرفاء، فيما تكفل بمؤانسة "خشبته" أهالي قرية الضبعة الطيبين، الذين جاوروا بيته في الإسماعيلية، وحرصوا على التدافع لحمله واحداً تلو الأخر، ليسكن في قبة أشبه بأضرحة الأولياء تتربع القمة بين فساقي (مقابر) الراحلين قبله؛ أوليس هو القائل: "وفى ليلة التشييع/ كان القمر غافل.. مجاش/ والنجم كان حافل/ لا بطل الرقصة ولا الارتعاش/ لما بلغنى الخبر/ اتزحم الباب/ وجوني الأحباب/ ده يغسل.. ده يكفن.. ده يعجن كف تراب/ وأنا كنت موصى لا تحملنى إلا كتوف إخوان/ أكلوا على خوان/ وما بينهمش خيانة ولا خوان/ وإلا نعشى ما حينفدش من الباب".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها