الأحد 2024/04/21

آخر تحديث: 10:11 (بيروت)

رحيل صلاح السعدني: المثقف العضوي شبه الهادئ شبه الصاخب

الأحد 2024/04/21
رحيل صلاح السعدني: المثقف العضوي شبه الهادئ شبه الصاخب
صلاح السعدني
increase حجم الخط decrease

رحل صلاح السعدني. والجملة الخبرية المجردة تكفي وحدها لرثائه، تمامًا مثل أن تقول أَفَلتْ الشمسُ، فتستدعي همًا وكآبة قد يفوقان نصًا يترصد غروبها، وتدفع لتأمل عميق في حركة الكون؛ تأمل أكثر عمقًا مما قد يثيره اختصار عطاء زاد عن 60 سنة في مفردة أو اثنتين يلخصان مشواره الفني.

يشبه صلاح السعدني الذي رحل الجمعة الماضي عن 81 سنة، بصيغة ما "نظرية الشبهية" التي كتب عنها في أحد مقالاته المعدودة المنشورة في نهاية التسعينيات، لولا أنه كان يصف من خلاله سلبًا ما نعيشه في أشباه دول تديرها أشباه حكومات، إذ خاض حياة فنية طويلة بين ما يشبه الهدوء والصخب الاختياريين، إيمانًا منه بأن غاية المبدع أداء وظيفته على أكمل وجه، والعزوف عما يحيد به عن ذلك، حتى تكاد لا تجد له حديثًا صحافيًا أو صورة فوتوغرافية يتفوقان في عددهما عمّا قد ينجزه فنان مبتدئ أدرك لتوه عملًا ناجحًا، لأنه لا يريد من المتأمل لمشروعه الانشغال بطرفة صاخبة أو ذكرى مؤلمة، شائعة أو مجهولة، عن حياته، وإنما يهمه استبصار ذلك المشروع وفق ما يتخذه من خيارات.

يظن البعض أن صلاح الذي ولد في عام 1943، وتكون وجدانه في حي شعبي تقليدي بوسط القاهرة في كنف مثقفي الخمسينيات والستينيات، أضرّه انشغال أخيه الأكبر بالسياسة وعداءه المعروف للرئيس أنور السادات الذي أدى به في الأخير إلى المنفى، غير أن الفنان الذي دفع ثمن توقيعه الشخصي عام 1972 على بيان المثقفين ضد حالة اللاسلم واللاحرب إبعادًا عن وظيفته الحكومية بمسرح الدولة وتلفزيونها لنحو ثلاث سنوات مؤثرة، استطاع بذكاء شديد تعويض ما فاته لاحقًا عبر عمل دؤوب في التلفزيون الذي انتشر في البيوت مع موجه الانفتاح، فصار منذ الثمانينيات وحتى اعتزاله الفن في 2013 عمودًا رئيسيًا للمنجز الدرامي المصري، وكأنه لم يغب أو يبتعد يومًا عنه.

يقول في حوار أجراه عام 1994 للتلفزيون التونسي، إنه يؤمن بأن الفن ليس للتسلية، وأن الدراما أخطر في تأثيرها من الكلمة المكتوبة بسبب انتشار الأمية في الوطن العربي: "لأن القراء قليلون... كان نجيب محفوظ الحاصل على نوبل إلى عهد قريب يطبع من كتبه ستة ألاف نسخة فقط لا غير، إنما المسلسل يصل إلى أعماق أعماق القرى والدساكر والدروب العربية من المغرب العربي وحتى الخليج".

ربما تغيرت اليوم النظرة إلى المنتج الفني، وصارت التسلية والإمتاع في حد ذاتهما قيمة فنية، لكن تلك المعرفة التي يعكسها تصريح الأخ الأصغر للكاتب محمود السعدني أحد صحافيي مصر البارزين عبر تاريخها، تنبع من فهم دقيق لمحيطه، ورغبة في تمثل مثقف غرامشي العضوي، الذي يؤمن بالوظيفة الاجتماعية للثقافة ويسعى لأدائها، يقول "أؤمن بأن للفن وظيفة اجتماعية، وأعي تمامًا هذا الدور، وبالتالي فإن اختياراتي نابعة من هذا الوعي، فأنا لست "أراجوز" ولا مهرجًا في سيرك، وأعتقد أن هناك درجة من الوعي في المجتمع، صحيح أن هناك من ينظر إلى الفن على أنه "أكل عيش"، ولكن هذه نسبة قليلة جدًا".

يحكي بلال فضل، الذي صادق السعدني لفترة غير قصيرة في حياته، أن الأخير قام رفقة عادل إمام في بدايتهما بتسجيل شريط كاسيت عن أهدافهما في المستقبل، فقال عادل إنه يريد أن يصبح أكبر ممثل في مصر، وهو الأمر الذي يستعيده السعدني -حسب فضل- بإعجاب من قدرة صديقه على تحقيق هدفه، لكنه حسب تلك الرواية لم يتوقف ليبين ما وشوش به الشريط، وأياً كان ما صرح به إلى المُسجل في ذلك الوقت، فإن الفنان الذي حاز ثقافة غنية واحتك باليسار المصري في أوج تألقه، ويزخر أرشيفه غير المنشور بمحاولات أدبية لم تنشر، كان يعرف كدارس للزراعة المجال الذي يجب الغرس والحرث فيه، ويترجمه إنتاجه الدرامي والمسرحي أكثر من إنجازه السينمائي الذي ربما التجئ إليه في السبعينيات والثمانينيات لتعويض غيابه القسري عنها وتدبير نفقاته المعيشية.

قد تبدو السينما مرحلة غير مضيئة كفاية في سجل السعدني الذي يؤكد رفضه إياها "لما تكون رديئة"، ولا يخجل في الوقت نفسه من أفلام المقاولات التي شارك فيها "الكثير منها أرضاني فنيًا"، ولكن يظل "جوهر" من "شحاتين ونبلاء" أسماء البكري إحدى القطع الفنية ثمينة القيمة في سجل السينما المصرية، ولعله يكفي المتلقي، أو يكفي السعدني نفسه الذي يرى أن الفنان قد يترك من منجزه كله "بصمة أو بصمتين".

في الواقع يزخر منجز الفنان الذي تخطى عدد ما أداه من شخصيات الـ200 شخصية، بأكثر من بصمة أو اثنتين تركهما في وجدان المتلقي المصري والعربي، الذين لا يكفي عند تأملهم الوقوف على قرب تلك الشخصيات من سمات رجل الشارع العادي حسبما توحي صورتها الأولى، فالثراء الذي تمتلكه تلك الشخصيات لا يكمن وحده في قصتها، وإنما في الصورة الساخرة التي قدموا وفقها.

في كتابه "حديقة المضحكين" يقول الروائي الراحل خيري شلبي عن صلاح السعدني "تُحس كأنه مخلوق ليضحك فحسب، كأنما هو في حالة إحساس دائم بالتفوق على الواقع والناس وحركة الحياة، لكن ضحكه في العادة لا يكون خالصًا أبدًا، تُحس وكأنه قد أدرك بعد طول تفوق على الواقع والحياة، أنه مجرد جزء ضئيل جدًا من هذا الواقع وهذه الحياة"، وهكذا جاءت جميع شخصيات الأعمال التي انفرد فيها بدور البطولة، رغم التراجيدية التي وسمت أغلب حكاياتها، فماذا يكون "حسن أرابيسك" غير نقيض لكل القيم التي آمن بها؛ فاشل في الحب، ومهزوم رغم انتصار أكتوبر، وفنان نزق لا يمارس فنه. ومثله نصر وهدان القط، الذي غادر الجنوب إلى الشمال بحثًا عن الإسكندر الأكبر بينما يعتمد على بردية مسروقة من مقبرة. وكذلك "الحسيني رضوان" الذي ظنّ أن مجرد حفظه لأشعار المتنبي وفؤاد قاعود سيسعفانه في زمن العولمة، أما "عبد الواحد" الذي كان يسكن حارة المواردي فتكفي رغبته في إطلاق اسم ماركس على وليده المنتظر كأكبر سخرية ممكنة من ماركس ذاته، تخيل الاسم "ماركس عبد الواحد"!

منذ الجمعة تبارت جميع الصحف في تكرار استخدام كليشيه "رحيل عمدة الدراما" عنوانًا لنعيه، وفي جنازته أحالت عدسات الصحف اللاهثة وراء التريند المراسم الحزينة إلى فوضى عبثية، وهما فعلان ربما حرص صلاح السعدني اجتنابهما طوال حياته، التي أراد لها أن تكون شبه هادئة شبه صاخبة، وربما يكون عزاؤه الوحيد من كل تلك "السوقية المفرطة"، أن يمثل رحيله دعوة لمحبيه لتأمل أكثر عمقًا لما تركه من "بصمة أو بصمتين"، لما تركه من بصمات كثيرة يصعب تلخيصها في مفردة أو اثنتين.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها