الأربعاء 2024/04/17

آخر تحديث: 13:41 (بيروت)

"وأجمل الذكريات ستأتي حتماً": وثيقة جماعية عن مصر التي...

الأربعاء 2024/04/17
"وأجمل الذكريات ستأتي حتماً": وثيقة جماعية عن مصر التي...
تحاول نولة درويش حين تستدعي سيرة عائلتها المتناثرة بين إفريقيا وأوروبا إثبات الفارق بين اليهود والصهاينة
increase حجم الخط decrease
تُعَرَّفُ الكتابة بنقيضها، تُعَرّفُ بالمحو، ومثلها الذاكرة يُعرّفها النسيان. ليس الفعلان غير عملية إقصاء دؤوبة يمارسها الفرد ضد لغته. ونولة درويش حين تبدأ كتابها الأحدث "وأجمل الذكريات ستأتي حتمًا" بشكر من أعانوها على ما غفلت عنه، فإنها كمن أطلق دعوة جماعية من أجل تشارك النسيان.
 
لا تكتب الناشطة النسوية المصرية، المولودة العام 1949، سيرتها الذاتية، وإنما تستدعي إلى ذهنها الحاضر، وقائع ومشاعر تقاسمتها مع آخرين، وتمنحهم فرصة مثيلة ليشاركوها والقارئ وعيهم الذاتي عن الإثنين، وكأنها في ذلك تصنع ما وصفه موريس هالبفاكس بـ"الذاكرة الجماعية"، حين تصير "ذكريات المرء جزءاً من ذكريات مجموعة اجتماعية محددة"، ولعل ذلك ما يجعل من كتابها الصادر حديثًا عن دار الكرمة في القاهرة، وثيقة ثرية عن زمن يمتد من أربعينيات القرن الماضي إلى اللحظة الراهنة.


تتحدر نولة، التي ولدت فيما والدها المناضل اليساري المؤثر يوسف درويش قيد الاعتقال، لعائلتين يهوديتين مصريتين من جهة الأب والأم اللذين اعتنقا الإسلام قبل زواجهما في العام 1947 خشية التضييقات الاجتماعية والسياسية التي كانت تمارس ضد اليهود في نهاية الأربعينيات، وهو ما يفتح بابًا أوسع لتأمل الآراء التي تؤرخ لذلك التضييق بمحاولة الملك فاروق التنصل من مسؤوليته عن النكبة الفلسطينية عبر شيطنة اليهود المصريين، أو تلك التي تثبتها بداية من العدوان الثلاثي على مصر الذي شاركت فيه إسرائيل العام 1956.

عمومًا لا ينشغل الكتاب بمهمة تدوين ما أغفله المتن الرسمي من حقائق، وكذلك لا تضع مؤسسةُ "المرأة الجديدة" في أولوياتها تصحيح ما جاء فيه من أخطاء، لكنها تصنع عبر سرديتها بانوراما بصرية وسمعية عن حقبة زمنية مهمة لا يستطيع كثير من المصريين امتلاك وجهة نظر مكتملة عنها. ففي النص المكون من 267 صفحة، ثمة "ذكريات" تتسع لتسجيل عمران تهدم وآخر تغيرت سماته، وعادات اندثرت ومشاعر شديدة الخصوصية تشترك أو لا تشترك مع المجال العام، وطاهية تقدم وصفات طعام ما زالت شهية. 

بيت الطبقة الوسطى وبيت شمبليون
في شارع شمبليون الشهير بوسط القاهرة، ثمة قصر بني على الطراز الإيطالي، لم يسكنه العالم الفرنسي المعروف، وإنما الأمير سعيد باشا حليم، قبل أن يلحق به التأميم فيؤول إلى حيازة الدولة التي تركته إلى الإهمال، من دون أن يبقى من سيرته الأصلية أو اللاحقة أي شيء غير اسم الشارع الذي التصق به دليلًا على ممارسة الزمن هو الآخر للنسيان. لكن وعي نولة من الطفولة والحاضر، استدعى من تاريخه أنه كان مدرسة ما، ربما لا تعرفُ اسمها، لكنها تتذكر نفسها صغيرة تجلس في الشرفة الخلفية لبيتهم تنقي الأرزّ عن شوائبه بينما تشاهد على الرصيف المقابل "مدرسة للأولاد وهم يلعبون في أثناء الاستراحة في حوش القصر بالمعروف باسم قصر شامبليون والذي كان يضم فصول المدرسة".


تُدخل نولة، قارئها، عبر سرد مشوق، إلى بيت من بيوت الطبقة الوسطى الأصلية، فيشاهد طقوسها اليومية في ممارسات عديدة، حتى أنه يكاد يبصر شعاع الشمس الذي يتسرب كل عصر عبر ستارة الشرفة فيفترش الصالة، بينما يجلس والداها لارتشاف "كأس ظريف قبل الغداء" مع المزَّة: "كان لبيتنا -مثل معظم البيوت- وجباته الخاصة التي تميزه. فعلى سبيل المثال بالنسبة للمَزَّة، كنا نحب القلقاس المصنوع على طريقة جدتي لأبي التي كانت طاهية ماهرة، وهو قلقاس مسلوق كاملًا بعد تقشيره ثم تقطيعه إلى حلقات وهو ساخن حتى لا يتحول إلى قطعة جلدية يصعب التعامل معها، وتحميره في زيت به كمية وفيرة من الكركم، وبعد غرف القلقاس الذي أصبح بلون ذهبي جميل، نقوم بتغميس القطع في خلطة من الملح والكمون وقليل من الشطة. كما كان أبي يحب تناول شرائح الباذنجان المحمر عند خروجها مباشرة من النار مع هذا القلقاس ويعتبر ذلك وجبة كاملة يرفض بعدها الجلوس على طاولة الطعام".

ديموقراطية العساكر
كان يوسف درويش يرجو أن تلد زوجته، إقبال دافيد حاسين، بنتًا، واختار لها "ربوة" اسمًا، لكن الأم التي لم تستسغه توصلت عبر معاجم اللغة إلى "نولة"، غير أن الوليدة الجديدة لم تنل فرصة رؤية أبيها قبل خمسة أشهر من ولادتها ولم تشبع من حضنه قبل إدراكها الرابعة. فالأب الذي قضى ما بين شهري نوفمبر من العامين 1948 و1949 معتقًلا لانتمائه السياسي، سرعان ما عاد بالتهمة نفسها خلف القضبان العام 1950 وظل هناك ثلاث سنوات تالية، رغم قيام الثورة ضد الملك العام 1952.

تحكي نولة: "سألت أمي التي لم تخف عني لحظة وجود والدي بالسجن (...) حاولت هي أن تقدّم لي إجابة تتناسب مع المفاهيم التي يمكن أن تستوعبها سني، وقالت: بابا كان ماشي في الشارع، شاف طفل صغير غلبان بيضربه شاويش ضخم. بابا ما استحملش المنظر ده وراح يضرب الشاويش علشان يسيب الولد الصغير، وعلشان كده أخدوه السجن". وتضيف: "أعتقد أن هذه الصورة لرفض الظلم والبطش بمن هم أضعف منا أثرت علىى ما جرى في حياتي كاملة، بل إنني مازلت أستدعيها حينما أشاهد صورًا مماثلة لهذا المعنى".

لكن رفع الظلم عن الضعيف، وهو بالمناسبة أحد شعارات ثورة 1952، لم يشفع ليوسف درويش وزملائه الشيوعيين أمام الضباط الأحرار لإطلاق سراحهم، وكذلك لم تشفع توسلات زوجاتهم، حسب الأم التي تنقل عنها نولة ذكرى لقاء جمعها بعبد الناصر شخصيًا: "توجهت السيدتان إلى مجلس قيادة الثورة في أرض الجزيرة، وطلبتا اللقاء بشخص اسمه جمال عبد الناصر الذي لم يكن معروفًا دوره عند الجميع في هذه الفترة. (...) أعرب عبد الناصر عن استيائه من موقف الشيوعيين تجاه الثورة، واضعًا جميع الفصائل التي كانت موجودة آنذاك في السلة نفسها على الرغم من التفاوت في مواقفهم تجاه حركة الضباط الأحرار. وطلب من أحد العساكر المساعدين أن يُحضر المنشورات الشيوعية كي تطلع عليها هؤلاء الهوانم. فلما اطمأنت أمي بأن الفصيل الذي كان ينتمي إليه أبي غير متورط في توجيه النقد إليهم، ولأنها كانت متشبعة بالثقافة الفرنسية، قدمت مثالًا عن الرئيس ديغول الذي يرسمه رسامو الكاريكاتير في فرنسا على هيئة وجه كالبلهوان له أذنان طويلتان كالحمار، ولا يطاولهم الأذى أو السجن (...) ثم تجرأت على المطالبة بتفعيل مبدأ الديموقراطية الذي نادوا به ضمن مبادئ الثورة والتعامل من خلال مقاومة الرأي بالرأي الآخر وليس بالسجن. فهبَّ عليها منفعلًا انفعالاً عارماً من جميع الموجودين في القاعة -بخلاف والدتي واعتدال ممتاز بطبيعة الحال- مفاده أن هذا الشعب لا يمكن التعامل معه بالديموقراطية لأنه شعب عبيد على حد قولهم. عند هذا الحد قررت أمي إنهاء الحوار الذي اتضح أنه لا طائل من استمراره". 

وهابية السادات
تحاول نولة درويش، حين تستدعي سيرة عائلتها المتناثرة بين إفريقيا وأوروبا، إثبات الفارق بين اليهود والصهاينة، الذين ما فتئ تيار الإسلام السياسي يجمع بينهم كخصم واحد في خطابه المتسرب إلى الحياة العامة فصاغ جزءاً كبيراً من لغتها، حد أنها كانت تسمع المتظاهرين حين ينددون بحرب إسرائيل على لبنان في 2006 يرددون "خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود"، وهو هتاف بالطبع لم يزل حياً حتى اليوم.

لكن بزوغ تلك السلفية الدينية لم تظهر كما يشاع مع بداية عصر السادات الذي أطلق ذراع الإخوان المسلمين لمقاومة الشيوعية، أو انتشار الوهابية على أيدي العائدين من العمالة المصرية في دول الخليج، وإنما يعود إلى الستينيات أو ربما إلى ما قبلها، فتسجل أنه "في أيام امتحانات الثانوية العامة كان مسموحًا لنا بالحضور بملابسنا الخاصة وعدم الالتزام بالزي المدرسي، وكان ذلك في شهر مايو أو يونيو 1966، وكان المشرفون على سير الامتحانات من خارج هيئة تدريس المدرسة. وذات يوم كنت أرتدي فيه فستانًا بفتحة دائرية غير عميقة من ناحية الصدر ومن دون أكمام، فنادتني مشرفة ووبختني على لبسي. فلما أجبتها أن "الدنيا حَرّ"، قالت لي: وأنت مش خايفة من نار جهنم؟".

مع الشعب ومن أجله 
لم تحبذ نولة، التي كانت أحد الفاعلين في المجلس العربي للطفولة والتنمية، دراسة العلوم التي انتسبت إليها في الثانوية العامة، فلم تحرز ما يؤهلها للالتحاق بأي كلية أخرى غير كلية المعلمات العليا، فدرست فيها اللغة الفرنسية، وهو المجال الذي ساعدها لاحقًا للانتقال إلى الجزائر في فترة ما بعد الاستقلال، حيث اختبرت قيمة "أن العمل مع المقهورين لا يقل -بل يزيد- عن أهمية العمل كسكرتيرة في إحدى المنظمات الشيوعية"، والأخيرة هي الوظيفة التي رغب أبوها أن تلتحق بها حتى تمارس العمل سياسي في نطاقها.


وخلال سنوات -غير قليلة- مارست خلالها ذلك النشاط سرًا وعلانية، لم يزد بأي حال من الأحوال ثقة نولة في جدواه، أو قدرته على إحداث تغيير اجتماعي وأيديولوجي حقيقي، رغم أنها تزوجت من أحد الفاعلين فيه. ولعل قصة نهاية تلك الزيجة التي لم تستمر غير بضع سنين تؤكد كاريكاتورية وعبثية تلك الكيانات: "عندما قررتُ طلب الطلاق، جاءني مسؤول حزبي يقول لي: الحزب يرفض إغلاق أي بيت شيوعي. فكان ردي وقحًا على غير عادتي، لأن المعنى الضمني كان استفزازياً للغاية بالنسبة إلي، فجاءت إجابتي كالصاروخ: اللي بينام في السرير جنبه هو أنا مش الحزب".

رسائل البيادة
رغم ذلك لا يخلو الكتاب من تناقضَين بارزَين، أولهما الموقف من جمال عبد الناصر، الذي تفتّح وعي نولة على ظلم نظامه لأبيها، لكنها خرجت لحظة تنحيه الشهيرة تطالبه مع الجماهير الغفيرة بالعدول عنها. ثم عادت بعد وفاته إلى الشارع لتسير خلف نعشه وارتدت الأسود حدادًا عليه لمدة شهر كامل، وهو موقف لا يكفي لتفسيره خضوعها لكاريزما الزعيم.

أما الثاني فيظهر في موقفها المتشكك من أي سردية تبرز إيجابية الطبقات الفقيرة، فتقول: "نحن فقراء أيضًا" فقط لتبدي تفهمًا لحصول عساكر السجن -الذين يحملون في بياداتهم رسائل المسجونين السياسيين إلى ذويهم خارج الأسوار- على مقابل مادي نظير خدمتهم، متغاضية عن أن المال في هذه الحالة مهما بلغت قيمته لن يعوضهم عن تنكيل بشع ربما ينالهم إن كُشفوا. وكذلك حين تشكك في قصة ذكرها أبيها الذي وقع وزملاءه ضحية تعذيب بشع في المعتقل، رأت آثاره بعينيها حين زارته مع أمها وأخيها، لكنها لم تصدق أن زوجات هؤلاء الجلادين امتنعوا عن معاشرتهم عندما علموا بأمر ما اقترفوه تجاه المعتقلين، ثم تصدق فورًا أن محاسبًا في مؤسسة "أخبار اليوم" هو السبب في إلقاء القبض على أبيها، بعدما أخبر رؤساءه أن والد زميلة ابنته سياسي، فنصحوه بزرع عنصر خادمة في بيته للتجسس عليه. ربما تكون هذه القصة المدهشة حقيقية فعلًا، لكنها لم تقف أمامها مطلقًا لتبين أياً من تفاصيل ذلك المخطط الجهنمي وكذلك طريقة اكتشافه.
 
الكتابة هي المحو، والتذكر نسيان. وحين تقرر نولة درويش، التي عاشت حياتها بين القاهرة والجزائر وبراغ وموسكو، أن تشارك القارئ ضحكة طفلتها الأولى ووعكة أصابت جسدها، فإنها لا تخضع لرقيب ذاتي/غيري ينصحها بالحذف أو بإسقاط غير المرغوب في ذكره، وإنما تمارس النشاطين: الكتابة والتذكر عبر وعي راهن يستدعي مما فات المعنى قبل أسباب وقوعه، لذلك لا تنشغل كثيرًا بتقديم تبرير أو تفسير من شأنه أن يفسد الكتابة بلا شك، ويمنع عن القارئ فرصة مماثلة للتأمل.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها