الخميس 2015/02/26

آخر تحديث: 15:29 (بيروت)

موت وأحزان في البندقية

موت وأحزان في البندقية
"تحت الجلد" لجوناثان غلايزر
increase حجم الخط decrease
 من أكثر الأمور المسلية في مهرجان البندقية هذا العام (٢٨ آب - ٧ أيلول) أن تستبق خروج الصحافيين والنقاد من الصالات والوقوف على الباب. ليس من أجل تفادي زحمة الخروج أو من أجل الانكباب على الكتابة وإرسال المقال قبلهم إلى الجريدة، بل لمراقبة علامات الأسى والحزن وهي تمزّق وجوه الزملاء جراء هذا الكمّ من المواضيع السقيمة والمأساوية التي تمحورت عليها أفلام الدورة 70. والمفارقة تكمن في هذا التضاد بين البيئة الخارجية للمهرجان، بسجادته الحمراء وفتياته الجميلات ومتطفليه المبتهجين من جانب، وما يخفيه فعلاً في صالاته المظلمة من جانب آخر. 
 
مدير الموسترا ألبرتو باربيرا كان قد حذّرنا يوم انعقد المؤتمر الصحافي لإعلان البرنامج: هذه دورة ستكون صورة مصغرة عما نعيشه في عالمنا الآني. والعالم، بحسب السينمائيين الذين يصوّرونه، عالم مريض. والمرض من النوع غير القابل للشفاء. إنها مجتمعات تنهار بالكامل تحت وطأة الظروف الاقتصادية والمآزق الأخلاقية، وأحياناً تنهار من الداخل، أيّ من داخل الكائن أولاً، ليمتدّ هذا الانهيار إلى المجتمع برمته. 

هذه السوداوية في النظرة إلى الأشياء، التي تنسف بعضاً من أهم الركائز الأخلاقية في المجتمع الغربي (علاقة الأب بأولاده نموذجاً) ليست من اختراع الموسترا ولم يأتِ بها المنظمون من مخيلتهم. إنه واقع يمكن للمرء أن يلمسه في الزوايا المنسية للصحف وفي الفقرات الأخيرة من نشرات الأخبار. لم يعد مقبولاً القول إن كل شيء على ما يرام. الكل متيقّن من المآسي المحيطة بنا، سواء في الشرق أو الغرب. بيد أنه، عندما يجري نقلها من الحياة اليومية إلى تلك المساحة البيضاء المستطيلة، تغدو صورة الإنسان أكثر إشراقاً ووضوحاً. فلا شيء يحرك الضمير وتقشعر له الأبدان أكثر من أن يوضع المرء أمام نفسه، أمام صورة اختزالية تستوعب كل الآفات في بضعة إطارات متلاصقة.
 
إذاً، كان على متابع المهرجان في أيامه الأولى أن يتحمل كل هذا القدر من العذاب. وهذا مستمر منذ اللحظة الأولى التي أطلق فيها صفير البداية، مع فيلم "جاذبية" لألفونسو كوارون (خارج المسابقة). حتى هذا الشريط الأميركي، الذي يتوجه فيه صانعوه إلى المزاج العام الأكثر انتشاراً، بدا في لحظة من اللحظات، تعبيراً عن تخبط هوليوود وعدم قدرة مصنع الأحلام الأكثر شهرة في العالم على البقاء خارج الحكايات اليائسة والعلاقات الإشكالية والنهايات المكلومة. خلال إحدى المهام، تتعرض البعثة الفضائية لعطل تقني (بسبب القمر الصناعي الروسي يقولون في الفيلم) ينجو منه اثنان، يضطلع بدورهما جورج كلوني وساندرا بولوك. ما تبقى من الفيلم عرض لتفاصيل صمودهما في الظلمة، والتحدي الذي يتجسد في التمسك بالحياة على الرغم من كل شيء. مقاربة هوليوودية (مع أن المخرج من المكسيك) لتيمة المقاومة، مشبعة بالعواطف والنيات الحسنة، ومطعّمة بالكثير من القلق. فكوارون يملك الفضاء كله، ولا يملك سواه، بيد أنه يحرص على بثّ شعور الضيق والاختناق.

والاختناق، بالمعنى الحرفي للكلمة هذه المرة، هو ما أصابني شخصياً وأنا أتابع الفيلم الثاني للمخرج الإغريقي الكساندروس افراناس Miss violence (مسابقة). لم أشعر بهذا القدر من الارتباك والتوتر منذ "فيلم صربي" لسردان سباسويفيتش قبل ثلاثة أعوام. هنا أيضاً نحن إزاء موضوع في منتهى القسوة: فتاة صغيرة في الحادية عشرة من العمر ترمي نفسها من الشرفة، أثناء احتفال العائلة بعيد ميلادها. أيّ سر خلف هذا الانتحار؟ ولماذا تفكّر طفلة في مثل هذه السن في الانتحار أصلاً؟ في حين يعود باقي أفراد العائلة إلى حياتهم اليومية وإلى طقوسهم، يأتي المحققون إلى المنزل لمعرفة أسباب انتحار الصبية. أحد من العائلة لا يتمكن من إعطاء مبررات مقنعة. من جهتنا، نكتشف شيئاً فشيئاً شخصية الأب المتسلط الذي يدير شؤون العائلة ويهتم بالشاردة والواردة، متحكماً بكل مفاصل الحياة. ولقطة بعد لقطة، تظهر الحقائق المرعبة، وتسقط الأقنعة التي كانت تجعل من العائلة كياناً بريئاً.
 
وعندما سيقتحم النص البصري المذهل تلك الأبواب المغلقة التي تحتضن الأسرار المفجعة، ثمة شعور بالانزعاج يسيطر على المشاهد، ليس فقط جراء صدمة الأحداث المتعاقبة، بل لأن ما لا يريه افراناس في الفيلم أشد وطأة علينا مما يقرر إظهاره. صورة الأب المنتهك والمغتصب والمتاجر بأرواح بناته ترتسم في المخيلة، بوقع أشد. في ختام الفيلم الذي لا نريد كشفه، عندما تقرر الأمّ المسلوبة الحقوق والكلمة أن تستلم دفة العدالة، لم يستطع الحضور منع نفسه من التصفيق، في رغبة صريحة للتخلص من الاحتقان الذي أصابه خلال ساعة ونصف الساعة من معالجة سينمائية ستسيل الكثير من الحبر في الأشهر المقبلة. في المؤتمر الصحافي للفيلم، قال افراناس إنه بدلاً من التكلم عن الأزمة الاقتصادية في اليونان، فضل التوجه إلى الحالة الاجتماعية. 

الفتاة المنتحرة في فيلم هذا الإغريقي ليست الوحيدة التي عانت من العنف الأسري. هناك أيضاً باكورة مصممة الأزياء الفرنسية انييس ب. التي تحكي في "اسمي هممم" (قسم اوريزونتي) عن رحلة تقوم بها سيلين البالغة الحادية عشرة من العمر، مع سائق شاحنة بريطاني تتعرف عليه خلال عطلتها المدرسية. معه تجوب مناطق فرنسية عدة، هرباً من جوّ البيت الموبوء. فسيلين صبية أخرى سرق والدها عذريتها وانتهك براءتها. وماذا نقول عن الرجل هادئ الأعصاب ("حياة ثابتة" لأوبرتو بازوليني) الذي يعمل كموظف مهمته البحث عن أقارب الأشخاص الذين توفوا حديثاً؟ وبأي كلمات نصف الجو الضاغط والليل الحالك الذي يغرقنا فيه "تحت الجلد" لجوناتان غلايزر طوال ١٠٧ دقائق؟ هذه الأجواء الكئيبة والمهلكة للأعصاب يأخذنا إليها أيضاً المخرج الكندي كزافييه دولان (٢٤ عاماً) في شريطه الرابع "طوم في المزرعة"، عن شاب يذهب إلى منطقة نائية لتقديم العزاء في وفاة صديق له، فيقع في فخ شقيق الراحل ووالدته، ما يجعله ينزلق في لعبة سادو- مازوشية، يتلذذ بها. حتى فيلم معلم التحريك الياباني هاياو ميازاكي، "الرياح تهب"، لم يفلت من الحدية التي تسيطر على السينما حالياً، إذ إن بطله مصمم القاذفات الجوية عبر كل مآسي القرن الماضي، من الهزات الأرضية إلى الحروب الكونية، لتستقر محنته أخيراً في حضن حبيبته المصابة بمرض. 

إنه فعلاً الموت والأحزان في البندقية!  

3.jpg
"طوم في المزرعة" لكزافييه دولان
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها