الخميس 2015/02/26

آخر تحديث: 15:29 (بيروت)

سينما الواقع تنتصر

سينما الواقع تنتصر
"كلاب ضالة" لتساي مينغ ليانغ: جائزة لجنة التحكيم الكبرى
increase حجم الخط decrease
 مفاجأة من العيار الثقيل اختتمت، مساء السبت، الدورة الـ70  لمهرجان البندقية: فوز الفيلم الوثائقي "ساكرو غرا" الذي يتحدث عن الطريق الدائري الشهير المحيط بروما بجائزة "الأسد الذهب" المرموقة.. المفاجأة لا تأتي من كون الفيلم ينتمي الى نوع مهمّش لا ينال عادة جوائز مهيبة كهذه فحسب، بل تأتي أيضاً من حقيقة أن هذا أول فيلم يشارك في مسابقة أعرق مهرجان سينمائي في العالم، بعد 81 عاماً على تأسيسه. 

"ساكرو غرا" هو أيضاً أحد أفلام المسابقة الغامضة، والذي لم يتوقع أحد أن يسرق الأضواء من أسماء كبيرة، مثل فيليب غاريل أو ستيفن فريرز، ليلة توزيع الجوائز، مع أنه يمكن تفهم هذا الخيار إذا ما استعدنا مسيرة برتوللوتشي، صاحب فيلم "1900" الذي ينقل صراع المزارعين مطلع القرن العشرين. إذن، لم يتخل برتوللوتشي، رئيس لجنة التحكيم، عن أفلام كان فوزها مرجحاً فحسب، بل سجل سابقة في تاريخ الـ"موسترا"، مرجعاً "الأسد الذهب" الى إيطاليا، بعد 15 سنة على فوز جيانّي أميليو عن فيلمه "الطريقة التي ضحكنا بها". وعليه، لا يمكن التغاضي أيضاً عن فكرة أن إسناد جائزة كهذه إلى فيلم كهذا، هو انتصار للواقع على الخيال.
 
جيانفرانكو روزي، مخرج رحالة ولد في أثيوبيا قبل 49 عاماً، وهذا فيلمه التسجيلي الطويل الثالث. استغرق تصويره نحو سنتين وتطلب مونتاجه أكثر من ثمانية أشهر. في "ساكرو غرا"، صوّر شخصيات ممزقة تعيش في محيط الطريق الدائري الذي يبلغ طوله 58 كيلومتراً. شخصيات اختارها بعناية، وهي تعبّر عن هذا الحيّز الضيق الذي يزداد ضيقاً في المدينة الأبدية، روما. شخصيات تجرجر مأزقها المعيشي من دون تذمّر. حتى الأحلام لم تعد ممكنة. كلّ سر الفيلم وجماله يكمن في هؤلاء الواقفين أمام عدسة مخرج يبلغ هنا مرتبة عالية من أخلاقيات التصوير والمسؤولية، اذ لا يشعر المتفرج في أيّ لحظة أنه أمام استغلال للبؤس والعزلة والإقصاء الاجتماعي، طمعاً في عواطف المشاهد وتضامنه. لا يأبه الفيلم للعواطف، بل يشقّ طريقة نحو منطقه الحسيّ الخاص في مخاطبة المشاهد: لا تعليق، لا موسيقى مباشرة، لا مقابلات. نحن أمام سينما نقية وإن كانت مادتها الأولية مركبة، منقحة، وفيها الكثير من الـ"ميز اون سين". كل شيء موجود في الصورة، المعلومة ورد الفعل، الإحساس والكلمة. 
 
أنجز روزي شريطاً خارج الموضة الحالية التي تطالب السينما بأن تكون لئيمة وقاسية وتمرّغ في الوحل شخوصها. وكلما كان الوحل أعمق، كلما نال الفيلم درجة أعلى من التصفيق. هنا، لا شفقة في نظرة المخرج على مَن يصورهم، ولا إدانة لما يفعلونه، بل تفهم وحنان وعطف. وأحياناً تواطؤ خفي لإيصال الكلمة.
 
يلجأ روزي الى الغرابة في انتقاء الشخصيات. كلها حالات فريدة، إما لكونها تعمل في مهن نادرة، وإما لأفكارها، أو لأشياء أخرى كثيرة. إنها نماذج تخرج عن السائد. فنتعرف على الطبيب الذي يعاين الأشجار، وعلى الأرستقراطي الذي يدخّن سيجاره وهو يستحمّ، والمسعف الذي يطبخ المعكرونة بالطماطم. "ساكرو غرا" مستقى من أشياء بسيطة، ويحملنا من الابتسامة التضامنية التي تثيرها أقوال شيخ، إلى مشهد غنمات ترعى العشب على مقربة من الخط السريع الذي تجتازه السيارات بسرعة عالية. والسيارات في أيّ حال، هي ما نراه من وقت لآخر، تعبر المكان، فيقصد سائقوها حيوات أخرى ربما، لا تشبه ما نراه هنا، حيث الحياة مقبرة الحياة.
 
الفيلم الذي اقتنص "الأسد الفضة" (أفضل مخرج) جاءنا من اليونان واسمه "ميس فيالنس" لألكساندروس أفراناس. سبق أن قدمنا في "المدن" مقاربة نقدية لهذا الفيلم الذي هزّ مشاعر المشاهدين ومال إليه الكثير من النقاد.  
هذا الشريط البديع أتاح أيضاً لتميس بانو  أن يفوز بجائزة "فولبي" لأفضل ممثل عن دور الأب الفظيع الذي جسده، فيما ذهب المثيل النسائي لهذه الجائزة الى الإيطالية ايلينا كوتّا عن دورها في "فيا كاستيلانا باندييرا"، باكورة المخرجة ايما دانتي.
 
جائزة لجنة التحكيم الكبرى، كانت من نصيب أحد الآسيوييَن المشاركين في المسابقة: التايواني تساي مينغ ليانغ. جديده "كلاب ضالة" عمل عادي بكل المقاييس. يورطنا الفيلم في 138 دقيقة من اللطم المتواصل الذي يبدو أحياناً بلا نهاية. يصور ليانغ تسكعات رجل متشرد يعمل كيافطة اعلانات بشرية في الشارع. انه ماكينة لتفريغ الوقت من فائدته. وطبعاً، كل مشهد من المشاهد يستغرق عشرات الدقائق قد يغفو خلالها المرء ويستيقظ مجدداً ليرى ان كل شيء ما زال في مكانه، وعلى حاله. هذا البطء الشديد الذي يبلور تقنية التكرار غير قادر على حملنا إلى مستوى درامي، يصبح المتلقي معه في مثل الحالة التي تعيشها الشخصيات، أي في الفقر والحرمان اللذين يصلان حدّ الإذلال. 
 
وفي حين اكتفى فيلم البريطاني ستيفن فريرز، "فيلومينا" (الذي كان يتوق للمزيد)، بجائزة السيناريو، وجدت اللجنة أن فيلم المخرج الألماني فيليب غرونينغ "زوجة ضابط الشرطة" يستحق جائزة لجنة التحكيم الخاصة. يبدأ الشريط بحوادث عادية متفرقة، قبل أن يطوّر ميولاً فاضحة إلى المأساة، من النوع الذي ينزلق فيه أبطالها من دون أن يدركوا نزولهم إلى الجحيم. نتابع حياة زوجين (ألكسندرا فيندر وديفيد زيمرشيد)، يعيشان بلا مفاجآت في الريف الألماني الهادئ. الزوج شرطي والزوجة تلازم المنزل. في البداية، يبدو كل شيء عادياً حتى بلوغ الفيلم نقطة اللاعودة بعد مرور 35 دقيقة تقريباً، عندما يعّنف الرجل زوجته لسبب تافه. الفيلم طوله 175 دقيقة، وتتطلب متابعته بعض الصبر، لا سيما أن مخرجه لم يسهّل علينا التماهي مع إيقاع الشريط، فوزّعه على 59 فصلاً، بعض تلك الفصول لا يتعدّى طوله الثواني القليلة، لكنها كافية لكبح الانفعال.  
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها