الجمعة 2014/09/05

آخر تحديث: 15:00 (بيروت)

أوروبا تضجر والشرق يقتل في موسترا البندقية

increase حجم الخط decrease
افلام آبيل فيرارا الأخيرة لم تكن على المستوى المطلوب. عليه الكثير من المآخذ: سرعته في العمل واقدامه على تصوير سيناريوات غير ناضجة وغير مكتملة. أنجز أعمالاً تشبهه وتشبه نمط الحياة الفوضوي الذي يعيشه. على الرغم من ذلك، كان الجميع، أمس، في انتظار فيلمه عن بيار باولو بازوليني، المخرج الايطالي الملعون، في هذه الدورة من مهرجان البندقية التي تختتم غداً. الحماسة ربما سببها صاحب "سالو"، وليس المخرج الاميركي الأثول. حتى المقابلات معه لم تكن متوافرة من شدة الطلب عليه. منذ اشهر وهو يلعب لعبة ذكية: فقبل فترة من عرض الفيلم، صرح لجريدة إيطالية بأنه يعرف من الذي قتل بازوليني وانه سيطرح هذه الحقيقة في الفيلم. هل هي مجرد حملة تسويقية أم فعلاً وصل فيرارا الى الدليل الذي يدين مرتكبي الجريمة الشنيعة العام 1975؟ الجواب في الفيلم الذي ينتظره الجميع. 

لا نستطيع القول أن الدورة هذه أفضل دورة قدمتها موسترا البندقية. الاكتشافات المهمة كانت قليلة والتشكيلة الرسمية معقولة ليس اكثر. اما الاجواء الباهتة بشكل عام، فهذه واحدة من المشكلات المستعصية في البندقية. هذا التردي الذي يشهده المهرجان عاماً بعد عام، لا يتعلق فقط بكون البقعة التي يجري عليها المهرجان معزولة جغرافياً عن بقية العالم، بل ايضاً لأن زيارته مكلفة مادياً، المشكلة التي لم يستطع المهرجان ايجاد اي حل لها. 

مع هذا، لم يخلُ المهرجان من مفاجآت، أولها فيلم "تجربة قريبة من الموت" (قسم اوريزونتي) للثنائي الفرنسي بونوا ديليبين وغوستاف كيرفيرن، المعروفين بالسينما القريبة من حركة البانك والمهمشين. مفاجأة الفيلم هنا هي إسناد دور البطولة الى الكاتب الفرنسي ميشال هولبيك، الذي لا يفوت مناسبة للاستفزاز. الحكاية بسيطة: بول رجل لا نعرف عنه الكثير. نراه مرة في مشهد حانة مع أصدقاء، ومرة أخرى يخرج من البيت واعداً زوجته بالعودة بعد ساعة. وعد لن يتحقق، لأن "بول" قرر ان يقصد الطبيعة كي يقتل نفسه. نعم، لقد قرر صديقنا ان يكون منتحراً.

الفيلم من النوع الفلسفي الوجودي العميق، والمونولوغ الذي يقدمه هولبيك ليس بعيداً من حروفه وفكره ومنطقه. بصمته فيه حاضرة بقوة. حياة "بول" كلها مرسومة على وجهه البائس وعينيه الذابلتين. عمره 56 عاماً، لكن يبدو كأن قرناً مرّ على بداية حياته. في رسالة موجهة الى الزوجة، يكتب أنه لم يخنها يوماً، فقد حريته لكنه ربح الطمأنينة. وفي رسالة الى ولديه، يقول: أبٌ ميت أفضل من أب بلا حياة. في النهاية، هذا فيلم ينظر في الحياة الغربية المحملة هموماً اقتصادية وعاطفية وعائلية. الحياة حمل ثقيل في زمن الصحوة من الأحلام والغياب الكلي لله.

إذا كانت تيمة العائلات المفككة والطفولة المعذبة والعلاقات المكلومة هي التي طغت على الدورة الماضية، فهذه الدورة تعرض افلاماً تضيق فيها بؤرة النظر. أفلام هذه الدورة تعاين في حال الفرد. والفرد تختلف احواله، لكن ثمة اشياء تبقى هي هي في تجربته، مهما يكن البلد الذي يأتي منه أو الثقافة التي ينحدر منها. هناك فيلمان على الأقل يقحماننا في صميم التجربة الانسانية، من زاوية الفردية: "في القبو" للنمسوي اولريش زيدل و"حمامة تجلس على غصن تتأمل في الوجود" للمخرج السويدي الكبير روي اندرسون الذي يتسل على "الاسد الذهب".

الاثنان يقاربان الفرد في عزلته ورفاهيته وتناقضاته. يحلو لي اطلاق عبارة أفلام الملل على هذا الصنف من السينما. الملل هو ليس ما يشعره المشاهد بل ما تعاني منه الشخصيات. إنها أوروبا الملل والعزلة والفراغ القاتل حيث كل شي متوفر، فيبدأ المرء في البحث عما يسليه. في فيلم زيدل، تتجول كاميرا المخرج داخل الاقبية لتعرفنا على شخصيات غريبة، واحدة منها تخفي طفلاً داخل علبة كرتون وثانية تنتظر عودة امجاد النازية. وهكذا... زيدل يواصل سخريته من الطبقة الوسطى بحس لئيم، ودائماً تختلط علينا الامور بين ما هو روائي وما هو وثائقي.

في فيلم زميله اندرسون، الأمور اكثر تعقيداً، لكنها أوضح. إنما من الممكن العثور على أوجه شبه بين الفيلمين. بطريقته الرتيبة والمتكررة والباردة، يصور اندرسون الاماكن التي يقصدها اثنان من الباعة المتجولين. هذا عمل عبثي ينقب في ذاكرة أوروبا ويقدم بعض المشاهد الكبيرة سينمائياً، لا شيء قابلاً للتفسير، كل شيء قابل للتأويل، لا صحّ أو خطأ. رجل يقع على الأرض في مطعم. إنها النهاية بالنسبة اليه: لكن، بمَ تهتم موظفة الصندوق في تلك اللحظة؟ بالطعام الذي دفع الراحل ثمنه. كل همّها من الذي سيأخذ هذا الطعام الآن. أناشيد حربية وتمجيدية يحرفها اندرسون خدمةً لرؤية انقلابية تكتمل في مشهد الحرق الذي ندعكم تكتشفون تفاصيله.

العنف حاضر أيضاً بتجلياته المختلفة، ومصدره الشرق: هناك الفيلم الياباني "نيران في السهل" (مسابقة) لشينيا تسوكاموتو، الدموي والصادم. نسخة ثانية لأحد كلاسيكيات السينما اليابانية ينطوي على عنف غير مسبوق. جندي ياباني في الفليبين، ضائع في جحيم الحرب، يبحث عن مَخرج لروحه. اخراج بديع في عمل لم يفز بالاجماع النقدي. خلافاً لـ"نظرة الصمت" للأميركي جوشوا اوبنهايمر (تكملة "فعل القتل" - 2012)، المعروض في المسابقة، الذي أعجب النقاد. ولم تكن حال الاعجاب هذه من نصيب "القطع" للمخرج التركي فاتي اكين (عن الابادة الأرمنية) الذي نال حصة وافرة من الأراء السلبية، وحظوظه في نيل الجائزة الكبرى يبدو أنها ضئيلة.

"نظرة الصمت" المشغول بطريقة مذهلة لا يرتقي الى الجزء الاول منه. فالمفاجأة تطايرت. في الجزء الأول، كنا تآلفنا الى حد بعيد مع قضية مقتل الشيوعيين على أيدي مجرمين بمساندة السلطة والجيش وبتجاهل غربي. في هذا الفيلم الذي يمكن اعتباره الفيلم الأصل، اي أن اوبنهايمر عندما ذهب الى اندونيسيا للتصوير، كان هدفه الحديث مع ضحايا المَقاتل الجماعية، ولكن أمام خوفهم، تراجع وراح يصوّر الجلاّدين الذين افتخروا بأعمالهم. "نظرة الصمت" رحلة شقيق فقد شقيقه. رحلته التي تحمله من مجرم الى آخر، لعل عينيه تلتقيان بعيني القاتل الذي سرق حياة شقيقه. فيلم أساسي لفهم معنى العيش في مجتمع لا يزال المجرمون هم الذين يتحكمون بمصير الجماعة. في مجتمع لا أحد مسؤول عن افعاله. هذه أيضاً فرصة ليدمل اوبنهايمر الجرح الذي نكأه في فيلمه السابق. هناك اعترافات فظيعة في الفيلم من جانب قتلة لا نلمس فيهم أي رحمة او تسامح. أحد كبار القتلة المشارك هو وغيره في قتل مليون شيوعي عام 1965، لشقيق أحد ضحاياه: "كنا نشرب دم الذين نقتلهم ثم نذهب لندعو الناس الى الصلاة في الجامع. هؤلاء الشيوعيون لا يؤمنون بالله. (تخيل) ينام الواحد منهم مع زوجة الآخر".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها