الخميس 2014/09/04

آخر تحديث: 15:02 (بيروت)

سمير درويش: الشاعر يكتب نفسه وما يعرفه

الخميس 2014/09/04
سمير درويش: الشاعر يكتب نفسه وما يعرفه
ثمة تخفيف في المضمون من الاتكاء على جسد الأنثى
increase حجم الخط decrease
بعد أيام سيصدر ديوانه الثاني عشر بعنوان "انهيارات بطيئة" ليتأكد حضور الشاعر المصري سمير درويش، الذي أحدث حالة مغايرة في بناء "قصيدة النثر" منذ ديوانه "يوميات قائد الأوركسترا" الذي صدرت طبعته الأولى العام 2007، ليأخذ القصيدة إلى عالم اليوميات السردية العادية الرهيفة، وليبحث من خلال هذا الشكل- في دواوينه المتلاحقة- عن ملامح أنثى مراوغة، يتوهم أنه وجدها فيتوقف عند ملامحها قليلاً، ثم يعاود البحث في حوار لا ينقطع، يعد التجربة الأنصع في الاشتباك مع الأنثى والجسد والجنس في الشعر الجديد..


* "انهيارات بطيئة"، عنوان لافت آخر لديوانك الثاني عشر، هل ثمة إضافة نوعية على مستوى تقنيات الكتابة في هذا الديوان؟ أم هو مجرد امتداد لتجربتك السابقة؟

- الشعر الجديد يعتني بشكل الصفحة، مساحة المكتوب إلى الفارغ، وإيقاع هذا المكتوب في الفراغ الأبيض كأن كل صفحة لوحة تشكيلية على مستوى البصر. هذا الفهم يجعل الشاعر- بوعي أو من دون- يطيل السطور أن يقصِّرها مع الحفاظ على حمولتها المعرفية، أو يقسم المعنى على سطرين. إلخ، في ديواني هذا تأتي النصوص على شكل الكتابة السردية دون التقطيع المعروف في الشعر، مع تقسيم كل نص إلى عدة فقرات، كل نص في صفحة واحدة، وهي كلها تشكل لوحة فنية مكتملة. هذا على مستوى الشكل، وفي المضمون ثمة تخفيف من الاتكاء على جسد الأنثى، تخفيف تدريجي، يظهر أكثر في التجربة التالية التي أعمل عليها الآن. في النهاية أحاول أن تكون لتجربتي ملامح ثابتة أُعرف بها، وأخرى متغيرة لا تجعلها ديوانًا واحدًا، أو قصيدة واحدة كما نرى عند بعض الشعراء.

* تقول إنك تخففت من لغة الجسد التي صبغت تجاربك الأخيرة، إلى أين ذهبت بلغتك إذن؟

- في البداية شدتني رائحة طين الأرض الزراعية حين تغمرها المياه، والحكايات الصافية التي تُغزل على حوافِّهَا: ضوء القمر وأصوات السواقي وقصص الحب الطفولية، بعدها أخذتني تجربة المرض القاسية التي مررت بها: المستشفيات والأطباء والممرضات ورائحة الأدوية والإعياء، حيث تصفو الروح وتصير أكثر شفافية وعلوًا. وفي كل الحالات ثمة نساء في خلفية المشاهد، وأجساد تتحرك بعفوية، وأخرى بغنج، وثمة موسيقى وألوان ولوحات، هذا الجو العام الذي أفضله ولا يخلو ديوان من دواويني منه، حيث القصيدة تشتبك مع العالم بمكوناته كلها، وحيث الفنون التشكيلية تحافظ على بكارة الكون ونقائه واستمراره.

* في دواوينك الخمس الأخيرة تثبت تواريخ الكتابة في نهاية كل نص كأنه أضحى من المتن الشعري، ما الذي يضيفه التاريخ للقصيدة؟

- أنا أضيف رصيدًا لتجربتي بهدوء ودأب دون أن أدخل في صراعات مكشوفة مع الزمن، لا أخفي أنني في بداياتي كنت أحس أن الزمن يتجاوز خطواتي، وأن عليَّ اللهاث لألحق به، الآن تغيرت من داخلي، لذلك أثبت تواريخ الكتابة على نصوصي مهما كانت قصيرة، لأؤرخ بها لنفسي، فالشعر مشروع ذاتي بالكامل، الشاعر الحقيقي يكتب عن نفسه وعمَّا يعرفه وما يحيط به ويحدث له، ويكتب لنفسه كونه القارئ الوحيد لما يكتب، لكي يطل على ذاته عبر السنوات في تبدلاتها وتغير اهتماماتها. الشاعر مغرور بطبيعته، لا يرى ما سواه، قد يحدث أن يتماس ما يكتبه مع آخرين يشتركون معه في الصفات والأحاسيس، فتتضخم القصيدة وتتعدى نفسها، ويصير الشاعر أوسع انتشارًا.

* في تجربتك عامة اتكاء على المشهدية، حيث تكتب نصًّا قصيرًا في عدة سطور يميل إلى الوصف، تقوم بتثبيت اللقطة وتكتبها دفعة واحدة.

- اليوم به مليون لقطة تمر أمام أعيننا جميعًا، يختار منها الشاعر لقطة واحدة دالة ليكتب عنها، الاختيار هو القصيدة. في الماضي كان الشاعر يختار اللقطات المليودرامية المؤثرة، كأن يكتب عن طفل ينام في الشارع، أو امرأة تشحذ في المقاهي، أو عجوز يتردد وهو يعبر بين السيارات المندفعة.. إلخ، لكن الشاعر الحديث يجهد لكي يختار لحظة شديدة العادية والتكرار لكي يؤطرها ويصنع منها قطعة فنية، تحويل الصورة الأولى إلى لوحة فنية ليس عملاً صعبًا لأنها لوحة في ذاتها، لكن المختلف والممتع هو تحويل العادي إلى شعر، وهو ما أحاول أن أصنعه.

* وكيف يأتي الجمال من تلك اللقطات العادية؟

- هذا هو سؤال "قصيدة النثر" الذي يحكم مستقبلها، فتلك القصيدة استغنت تمامًا- أو كادت- عن البلاغة القديمة التي بدأت من التشبيه حتى المجاز الثقيل، لأنها في الحقيقة استنفذت أغراضها طوال خمسة عشر قرنًا أو يزيد هو عمر الشعر العربي المعروف، وحاولت أن تصنع المفارقة الشعرية من الصدام بين النص كوحدة واحدة والموجودات والأشياء حوله. لذلك تؤلمني الكتابات المنشورة على فيس بوك مثلاً، والتي أراد أصحابها أن تكون شعرًا، وهي مليئة بأفعال الأمر أو حروف النداء، وهذه التراكيب التي أضحت غريبة على ذائقتي، فالقصيدة الجديدة لا تأمر ولا تتوسل بقدر ما تصف وتمعن النظر وتزيح الستائر عن النفس البشرية لتعريها.

* أيضًا أنت تعتمد على الجملة الفعلية المضارعة فيصير نصك كأنه قصة قصيرة.

- نعم، أنا أتعمد ذلك منذ بداياتي لعدة أسباب، منها أو الجملة الفعلية المضارعة تشعر القارئ أن الحدث يحدث الآن، وأنه يراه بعينيه ويسمع أصواته، إن لم يشارك في صنعه كأحد أطرافه الفاعلين. كما أنها تنهي تلك الخطابية الزاعقة التي ميزت شعرنا العربي على طول تاريخه، بل وخطاباتنا الثقافية جميعًا، بحيث يغلب الجرس الموسيقي على الفكرة، والادعاء على الحقيقة.. وهي أيضًا ضد الاسترسال بلا معنى، فالنص يكون محكومًا ببداية ونهاية وحدث وذروة، ليس بهذا الشكل الحديدي بالطبع لأننا في النهاية نتحدث عن الشعر الذي يلزمه انفلات وتحليق.. الخ. وأخيرًا أتصور أن هذا الشكل ميز تجربتي وأعطاها مذاقًا مغايرًا عن الشعر المطروح.

* وماذا عن النقد؟ هل استطاع النقاد أن يروا تجربتك بشكل جيد؟

- كثيرون كتبوا عن دواويني، وعن تجربتي بشكل عام، من مصر ومن خارجها، وكثيرون تحدثوا عنها في الندوات العامة. هناك اجتهادات لا بأس بها في محاولة القراءة، لكنني أعتقد بشكل عام أن ثمة أزمة في فهم دور النقد ورسالته، ففي حين أرى أن الناقد عليه أن يفكك النص إلى عناصره الأولى ويحاول تركيبه كما فعل الشاعر، ليستطيع فهم منطلقاته الفنية وألاعيبه البنائية ومدى مناسبتها للحالة الشعرية، أجد أن النقاد يتكلمون كثيرًا خارج النص عن أشياء عامة، تافهة غالبًا، ويتوقفون انتقائيًّا أمام المناطق العالية ليشرحوها، أو يتحدثون حولها حديثًا عامًا مكررًا في الغالب. فإذا كانت التجربة جسدية انشغلوا بالجسد، وإن كانت سياسية انشغلوا بالسياسة، وإن كانت ثقافية انشغلوا بالثقافة، وفي كل الحالات لا ينشغلون بالبناء الفني، ولا بالعمارة التي شيدها الشاعر ليوصل من خلالها رسالته: اختيار المفردات وبناء الجملة وتركيب الصورة الشعرية والعلاقات الخفية بين كل هذه الأشياء.. إلخ، فالجسد والأيديولوجيا والثقافة والحماسة والحب والمرض والاكتئاب والجنون.. كلها أقنعة للحالة وليست الحالة نفسها، والناقد عليه أن يعري الحالة من أقنعتها ليصل إلى لبها، وهذا لا يحدث مع الأسف إلا نادرًا.

* أخيرًا.. ما الذي تكتبه الآن؟

- أكتب تجربة شديدة الذاتية، فيها الشاعر والشعر والعالم واللغة محبوسون في مكان ضيق، تستطيع أن تسمع همس أشيائه، وتفاصيله الصغيرة: الشرفة والمروحة وأصوات الطبيعة، والصمت الطويل، والظلام، والخيالات التي تتحرك.. إلخ. الخطورة- والتحدي- في أن تصنع ديوانًا كاملاً في هذا الحيز الضيق دون أن يشعر القارئ- الذي هو أنت- بالملل، أو بالتكرار، وأظن أن التجربة حتى الآن تمضي من دون عوائق.
increase حجم الخط decrease