الخميس 2014/08/21

آخر تحديث: 14:22 (بيروت)

سميح القاسم... المقاومة في زمن الشعر

الخميس 2014/08/21
سميح القاسم... المقاومة في زمن الشعر
المثقف والمناضل الثوري
increase حجم الخط decrease
خسر العالم العربي وخسرت فلسطين في غياب سميح القاسم علماً كبيراً من أعلام الشعر العربي الحديث. وخسرت أنا صديقاً من زمن كانت قد بدأت تتكوّن فيه علاقة من نوع فريد بين شعبين عربيين شقيقينن هما الشعب اللبناني والشعب الفلسطيني، في كفاح توحدت فيه، في الصواب وفي الخطأ، مطامحهما في الحرية والتقدم. واحتلت الثقافة في ميادينها المختلفة في هذا الكفاح الوطني التحرري المشترك دوراً غير مسبوق. 

كنت منذ مطالع ستينات القرن الماضي، أتابع بشغف وبتقدير كبير من خلال الصحافة العربية، لا سيما الفلسطينية التي كانت تصلني في مقر عملي في فيينا، ما كان قد ابتدعه سميح القاسم مع رفاقه الشعراء أبو سلمى وتوفيق زياد وكمال ناصر ومحمود درويش ومعين بسيسو من شعر حديث أطلق عليه ووثقه بإتقان الروائي غسان كنفاني في كتابه الشهير "أدب المقاومة". وكان ذلك الشعر بامتياز شعراً فلسطينياً مقاوماً. وكان الشعراء الذين كان سميح القاسم واحداً منهم، هم أبطال ذلك الشعر المقاوم. وكان لذلك الشعر دور بالغ التأثير في كفاح الشعب الفلسطيني من أجل الحرية، لا سيّما في المرحلة التي انطلقت فيها الثورة الفلسطينية الجديدة في مطلع العام 1965. وسرعان ما انضم إلى هذه الكوكبة من الشعراء في الاتجاه ذاته الذي سلكوه عدد من رواد الشعر المقاوم من شعراء لبنان الجدد، وبالأخص منهم شعراء الجنوب.

في مطالع السبعينات تعرّفت إلى سميح بعدما كنا قد أصبحنا صديقين بالمراسلة ورفيقين بالهمّ الوطني الثوري وباعتبار المقاومة، كل منا على طريقته وبنوع سلاحه الثقافي، طريقنا إلى الحرية. اكتشفت فيه آنذاك من قرب ذلك النموذج الرائع من المثقف الذي كان يجمع في حياته بين سحر الكلمة التي يمتاز باستخدامها الشعراء في كل العصور وبين شخصية المناضل الشيوعي المؤمن بأن مستقبل بلاده في الحرية والتقدم والعدالة هو جزء لا يتجزأ من مستقبل البشرية برمّتها.

قرأت كل دواوين سميح القاسم أو هكذا يخيّل إليَّ. وقرأت كتاباته النثرية التي كان ينشرها في جريدة "الإتحاد" وفي مجلة "الجديد" وفي مجلات عربية أخرى. وقرأت ما كنا قد نشرناه له في صحافة الحزب الشيوعي اللبناني، لا سيّما في مجلة "الطريق"، من قصائد ومن مقالات وأحاديث. ورغم أنني لست ممن يعتبرون أنفسهم نقاداً ويشهد لهم القراء بذلك، فإنني كقارئ شغوف للشعر منذ مطالع شبابي أعترف بأنني كنت أعتبر سميح القاسم واحداً من رموز حركة الشعر الحديث، بأسلوبه هو بالطبع، أسوة بسواه من الشعراء، وبطريقته هو في اختيار مواضيع قصائده ومناسباتها ووجهته فيها، وذلك من موقعه كمثقف وكمناضل ثوري في اتحاد الوظيفتين من دون افتعال. وإذا كان من الخطأ في هذه اللحظة بالذات التوسع في الكلام عن سميح القاسم في الاتجاهات التي سلكها، لا سيّما في لحظة وداعه، فإنني لا أستطيع إلا أن أشهد بأن سميح القاسم قد مرّ بتعرجات كثيرة في العقود الثلاثة الأخيرة من حياته. وهو ما بدا لي من خلال ما توصلت إليه من قراءات له ومن اتجاهات كانت تحملها بعض قصائده وبعض مواقفه. لكن سميح لم يكن الوحيد في ما جرى له من تعرجات في حياته. إذ سبقه إلى ذلك أحد أساتذته الكبار الأديب والمناضل الشيوعي الروائي إميل حبيبي. وكعادتي في علاقاتي مع أهل الثقافة من رفاقي في الموقع الفكري والسياسي ومع الآخرين، فقد بقيت أميناً على العلاقة ذاتها قبل نصف قرن مع سميح ومع الآخرين. وقد أحزنني خبر وقوعه صريع ذلك المرض الخبيث.

وكنت أتحدث إليه من القاهرة وعمّان في أمور حرصت ألا يكون موضوع المرض واحداً منها. وكان آخر حديث بيننا في العام الماضي عندما كنت في عمّان. سألته متجاهلاً عن قصد وضعه الصحي عمّا إذا كان بإمكانه ملاقاتي في عمّان. فأجابني بحسرة ومرارة وبحب وشوق للقاء بيننا: "هل تتصوّر يا كريم أنني أنا القاعد في منزلي بانتظار آخر أيامي سأتمكن من ملاقاتك في عمّان؟". طيّبت خاطره وحزنت. وبدأت غصباً عني أكافح ضد ذلك الزمن الذي سيعلن مجيء اللحظة التي فجعتنا البارحة في إعلان رحيله.

سيظل سميح القاسم بعد رحيله، إلى جانب من رحلوا قبله أبو سلمى وتوفيق زياد وكمال ناصر ومحمود درويش ومعين بسيسو وإميل حبيبي الرواد الكبار لحركة الحداثة في الشعر وفي الرواية وفي كل ميادين الثقافة، سيظل مع هؤلاء في تراثه وتراثهم نموذجاً رائعاً للدمج العقلاني بين دور المثقف ودور المناضل الثوري. 
increase حجم الخط decrease