الأحد 2013/09/29

آخر تحديث: 03:04 (بيروت)

كوميونة كوبنهاغن المتمردة

الأحد 2013/09/29
كوميونة كوبنهاغن المتمردة
غرافيتي في كريستيانيا
increase حجم الخط decrease
 كريستيانيا واحدة من أشهر مناطق كوبنهاغن، كل من قابلتهم قبيل سفري إلى الدنمارك أوصوني بزيارة المنطقة، وكل من قابلتهم هناك سألوني إن كنت قد زرتها أم لا. وعند البحث في الانترنت عن أشهر معالم المدينة، تكون كريستيانيا من أوائل النتائج التي يظهرها البحث.
المنطقة التي كانت قديماً إحدى ثكنات الجيش الدنماركي قبل أن يهجرها، مشهورة بشدة، لكونها المنطقة الحرة والمتحررة داخل العاصمة الدنماركية حيث يمكن للمرء أن يشتري المخدرات الخفيفة ويدخنها بهدوء. لكن الأمر داخل كريستيانيا يتعدى مسألة المخدرات بكثير.
 
في العام 1971 احتلت مجموعة من "الهيبيز" قاعدة الجيش المهجورة، وأعلنوها منطقة حرّة لهم، يمارسون فيها حياتهم الجديدة كما يشاؤون، وكما تعلّموا من شعارات مرحلة 1968 الشهيرة.."دعونا نمارس الحب لا الحرب".
 
عند الخروج من بلدة كريستيانيا تجد لافتة كبيرة كتب عليها: "أنت الأن تدخل الاتحاد الأوروبي"، فالمنطقة لا تعد نفسها داخل الاتحاد الأوروبي ولا ضمن الدولة الدنماركية أيضاً، وإنما منطقة حرة صنعت بأيدي سكانها من الجيل الأول وحتى آخر ساكن انضم إلى المنطقة الحرة منذ حوالي شهر تقريباً. منذ الاحتلال/التحرير الذي قامت به المجموعة الأولى، مطلع السبعينات، تم الاستقرار على عدد من القواعد لإدارة المنطقة، على رأسها المشاركة. فسكان المنطقة - التي تبلغ مساحتها حوالي خمسة كيلومترات مربعة- يديرون مدينتهم بأنفسهم، عبر 14 لجنة مختلفة، ويتم تنظيم مسائل المعيشة بحسب البيوت الموجودة، وقبول السكان الجدد بحسب المساكن الشاغرة المتوافرة، وأيضاً المتجر، والاحتياجات العامة لسكان المنطقة.
 
منذ البداية وتأثراً بالحالة المنتشرة بين شباب 1968، كان الاحتفاء بالمخدرات أمراً ثورياً، ولما كانت كريستيانيا منذ نشأتها مكاناً يقوم على الحرية، والحرية الفردية التي لا تؤذي أحداً، لذا تحول المكان منذ "ولادته" ساحة لتدخين واستهلاك المخدرات بأنواعها كافة. لكن بعد فترة، أواخر السبعينات تقريباً، وحين تبينت مخاطر المخدرات الثقيلة، مثل الكوكايين والهيروين والمستحضرات الكيميائية، تم الاتفاق بين سكان المنطقة على عدم السماح بتلك الأنواع داخل المنطقة، فقط المخدرات الخفيفة التي لا تؤذي المجتمع القائم داخل أسوار كريستيانيا.
 
تجريم المخدرات الثقيلة ليس له علاقة بالمسائل الصحية فحسب، لكن الأمر في الأساس يعود إلى رغبة أهل هذه الكوميونة الصغيرة في الحفاظ على المجتمع الناشئ بلا مشاكل جسيمة، لذا يبقى الحشيش والماريجوانا، بحكم أنهما "مكيفات" لا تسبّبان غياباً تاماً عن الوعي وبالتالي لا تنتج عنها مشاكل بين الأفراد المقيمين أو الزائرين.
 
المخدرات لعبت دوراً كبيراً في شهرة المنطقة، ليس فقط داخل الدنمارك، وإنما على مستوى العالم. فالمسألة ليست كما في أمستردام، حيث يبيح القانون تدخين الحشيش والماريجوانا وحيازتهما بنسب معينة، وإنما في النضال ضد الدولة والشرطة وانتزاع المنطقة من أنيابهما كل هذه الفترة، وخلق أسلوب جديد في إدارة المنطقة وأيضاً أسلوب حياة المقيمين هناك.
 
بعد فترة من الاحتلال/التحرير، سمح سكان المدينة ببيع المخدرات في الداخل، لكن المهم الالتزام بالشروط.. عدم بيع المخدرات الثقيلة، عدم جر البلدة إلى نزاعات العصابات الدنماركية، منع السلاح في الداخل، وبالتأكيد عدم افتعال المشاكل.

Woodstock-(2).jpg
كل شيء (تقريباً) مسموح في كريستيانيا.. و"وودستوك" في البال

يقول يورام، وهو أربعيني من سكان كريستيانيا وابن الجيل الأول الذي استوطن المدينة: "المخدرات موجودة شئنا أم أبينا، والحكومات بغبائها تقوم بتجريمها، ما يؤدي إلى انتشارها أكثر من ناحية، ومن ناحية أخرى يسمح بوجود وانتشار أنواع جديدة ومختلفة أكثر تدميراً للإنسان وأكثر سيولة من نصوص القانون، لذا نحاول هنا أن نستمتع بالمخدرات ولا نكذب على أنفسنا، وفي الوقت نفسه نحافظ على مجتمعنا من التحول إلى مجتمع عصابات، ونحول دون تفككه أو انهياره". أسأله عن كيفية حفظ الأمن داخل المنطقة، وهل تم خلق ما يشبه الشرطة من أجل الحفاظ على المنطقة من المشاكل، يجيب: "لا ليس لدينا شرطة أو حراس.. الحفاظ على الأمن مهمة الجميع، إذا رأى أحد السكان، من يحاول أن يفتعل المشاكل يبادر على الفور بالتدخل وإنهاء الموقف قبل أن يتحول إلى مشكلة".
 
جاء يورام مع والدته إلى كريستيانيا عندما كان طفلاً في الحادية عشرة، وجرّب منذ خمسة عشر عاماً الإقامة خارج كريستيانيا، لكنه لم يستطع المقاومة أكثر من عام ونصف، فعاد إلى المكان الذي يصبح فيه الناس أكثر إنسانية.. "الناس في الخارج محكومون بأخلاق والتزامات عديدة تحررنا منها هنا منذ وقت طويل، وبعد التعود على سلوكيات كريستيانيا يبدو الخارج جحيماً لا يطاق".
عند الخروج من منطقة وسط كريستيانيا – حيث لا يسمح بالتصوير - لوجود باعة المخدرات والمقاهي والمحلات البسيطة، يبدأ ريف المنطقة، وهو الجزء الأكبر والأهدأ، حيث تجد منازل صغيرة بناها أصحابها أنفسهم، بأشكال معمارية مميزة وأيضاً اقتصادية، إذ أن كلفتها قليلة نسبياً.

15_11md090615231710flat-(1).jpg
 
من حين إلى آخر، وبشكل شبه شهري، تنعقد اللجنة المكلفة بمتابعة مسألة السكن، فتنظر في الطلبات المقدمة للسكن في كريستيانيا، وعدد المنازل الفارغة، والزيادات التي طرأت على أهل المكان، مثل المواليد الجدد وحاجة أسرهم إلى مساكن أوسع، ويتم النظر في هذا بحسب الإمكانات المتاحة والحاجات المطلوبة. ولا يعتمد سكان المنطقة على التصويت كآلية في اتخاذ القرارات، لكن على ما يمكن تسميته بآلية الإقناع، يقول يورام إن "التصويت يعني أن هناك فريقاً سيخرج من الجلسة غير راض، لذا نعتمد المناقشة، والاستماع إلى رأي المعترضين والوصول إلى حلول ترضي الجميع".

Copenhagen_entrance_christiania-(1).jpg 
 
لا يعني ذلك أن كريستيانيا لا تعاني المشاكل، لا سيما مع الدولة. فمن حين إلى آخر يطالب بعض نواب البرلمان المحافظين بإخلاء المنطقة نظراً إلى الخطر الذي تشكله المنطقة على "الأخلاق العامة". وأيضاً ثمة مشاكل مع الشرطة التي تقتحم الكوميونة أحياناً بحثاً عن المخدرات، لكن، حتى الآن، تمكّن أهل كريستيانيا بفضل تحالفهم كجماعة من الحفاظ على مدينتهم "حرة".
 
عند عبور حدود المنطقة، وبداية العودة النفسية والذهنية إلى العاصمة المقوننة، تبدو كريستيانيا لمن زارها علامة أخرى من علامات نظام كوبنهاغن. رغم كونها غير قانونية، فإنها تتمتع بنظامها الخاص، على هامش النظام الأساس، من دون أن تدمّره، بل يحتفي بها النظام التقليدي باعتبارها دليلاً على جودته من ناحية، وأيضاً على تسامحه مع مثل هذه الحرية وهذا التمرد.
 
chr-(3).jpg

denmark_christianiaseveral2_2012_street-(1).png
الممنوعات والمسموحات مصوّرة ومعلقة على الجدران، بحسب قانون كوميونة كريستيانيا

 
increase حجم الخط decrease

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب