الإثنين 2013/08/12

آخر تحديث: 02:46 (بيروت)

شعور الشخصية هو الحقيقة

الإثنين 2013/08/12
شعور الشخصية هو الحقيقة
increase حجم الخط decrease
 قليلة هي الأعمال التي تعطي قارئها إحساساً معيناً، وأعمال أقل هي التي تجعل هذا الاحساس يدوم. يحتاج الأمر إلى درجة فنية عالية في البناء وفي خلق شخصيات وعالم الرواية كي يشعر القارىء بهذا الإحساس. هكذا يتورط قارىء رواية "كتاب الأمان" للروائي المصري ياسر عبد الحافظ.

الالتباس هو الاحساس الذي يخلقه "كتاب الامان" عند قارئه. ربما تبدو الخطوط العامة للرواية بسيطة، يمكن تلخيصها كما على الغلاف الخلفي للرواية: "بين طبعتين من كتاب الأمان يبحث خالد مأمون مدون التحقيقات في "قصر الاعترافات" عن حقيقة مصطفى اسماعيل الأستاذ الجامعي السابق في مجال القانون والحائز على لقب أمهر لص في عقد التسعينات". لكن الأمر أكثر تعقيداً من هذه الخطوط العامة، فخالد مأمون يُسحر بشخصية مصطفى اسماعيل وفلسفته ورؤيته لفكرة السرقة والقانون والحياة المشتركة لبني البشر والكتاب الذي وضعه أستاذ القانون ليضع فيه خلاصة تجربته وتعاليمه والذي أسماه "كتاب الأمان".
 
منذ الصفحة الأولى للرواية يصيب الكاتب قارئه بهذا الالتباس بين مصطفى اسماعيل، وبين خالد مأمون المهووس به، والذي يقرّر أن يكتب كتاباً يحكي فيه حكاية اللص الشهير من واقع اعترافاته التي دوّنها مأمون خلال عمله في الكيان الضخم السرّي المسمّى "قصر الاعترافات". وعلى هامش هذا الخط، ثمة عوالم أخرى تغذّي هذه الحكاية، فهناك نبيل العدل المحقق الذي يتولى قضية مصطفى اسماعيل، والمهووس بمصر الجديدة باعتباره حفيد "العدل أفندي"، الموظف المصري الوحيد الذي عمل مع البارون "إمبان" مؤسّس مصر الجديدة.
 
المسألة ليست في حبكة بوليسية معقدة، يجيد المؤلف بناءها، فنحن أمام عمل روائي يتّخذ من خلق طبقات متشابكة وسيلة لبناء هذا العالم الملتبس.
 
الجميع في "كتاب الأمان" مهووس بالحقيقة، وكلّهم يجتاحه الشك في كونها حقيقة. المحقق يرى مدينته التي يؤمن بها تنهار وتتبدل ويكتشف أن زوجته التي جمعته بها محاولة تدوين تاريخ المدينة، نسيت، وهي تتعامل مع المسألة على اعتبار "كنا عيال وبنلعب".. ويكتشف عبر جرائم مصطفى اسماعيل أن زوجة شقيقه تخونه من أجل فانتازيا جنسية تجدّد بها تمردها.
 
إلتباسات الرواية ليست بين الخير والشر فحسب، بل أيضاً بين الأمور الرمادية الملتبسة بالأساس.. أين الحقيقة؟ وأين المعرفة؟.. أين الصواب بين رواية الفعل ورواية رد الفعل والزوايا المختلفة لمشاهدة كل من الروايتين. المتهم وكاتب التحقيقات.. ابنة البطل ومؤلف البطل.. أي الروايتين أصدق.. وكيف يمكن المواءمة بين الرؤيتين كي نصنع طبعة ثانية تكون عملاً مختلفاً عن الطبعة الأولى التي صنعها المؤلف وصار فيها البطل بطلاً. مدون التحقيقات لا يعرف إن كانت الاعترافات هي الحقيقة.. أم الحقيقة هي ما يكتبه.. أم ما يغيره نتيجة مطالبات دار النشر.. أم الرواية الجديدة التي تطالبه بها حسناء ابنة مصطفى اسماعيل.
 
حسناء المهووسة بـ"الحقيقة النهائية"، والتي تقرر أن تضع كتاباً تحت هذا العنوان، تجمع فيه المقاطع الهامة الواردة في أعمال أدبية، ترى أنها تحمل تلك الحقيقة. تقدمها لقارىء مشغول مثلها بالوصول إلى تلك الحقيقة.
 
"كتاب الأمان" رواية بنيت طبقاتها على مهل وبفنية عالية. يمكن القول إنها رواية عالمية، بمعنى أنها رواية غير مهتمة بإبراز جوانب المجتمع المحلي، أو برصد انهيار ظواهر إجتماعية أو نشوئها في مصر، لكنها رواية مخلصة لكونها رواية، ولعالمها الخاص. عمل يمكن تقديمه للقارىء العالمي المهتم بالرواية وليس المهتم بالجوانب الانثروبولوجية لمجتمع معين.
 
اللغة في الرواية لا تقدم شحنات انفعالية مفاجئة، ولا تعتمد على التكثيف الشعري، لكنها لغة مصنوعة بعناية لتبدو كما لو كانت محايدة وباردة تماماً، لكنها متورطة بامتياز في نقل إحساس الالتباس بين الحقائق، في جو قاتم يغذي حالة الشك التي تلف الشخصيات وتصيب القارىء الباحث عن الحقيقة بين الروايات المتعددة.
 
بين طبعة "كتاب الأمان" الأولى، وظهور حسناء وإصرارها على إصدار طبعة ثانية، تتناول الرواية "الحقيقية" لقصة والدها، تفتح الرواية تساؤلات حول ماهية الكتابة ذاتها، وعلاقتها بـ"الواقع"، وموقع الكاتب من موضوع كتابته والمساحة المفترضة بينهما.
 
مصر الجديدة وشبرا في "كتاب الأمان" ليسا مجرد مناطق سكنية قديمة في القاهرة، إذ تحمل كل منهما شحنة اسطورية كما تبدو في عين الرائي. نبيل العدل بالنسبة إلى مصر الجديدة، وخالد مأمون بالنسبة إلى شبرا. لا يهم إن كانت الحكايات حقيقية، لكن هكذا ترى العين وهكذا يشعر الأشخاص، فهكذا تكون الحقيقة.
 
increase حجم الخط decrease

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب