الثلاثاء 2015/01/20

آخر تحديث: 16:47 (بيروت)

عراق في زمن الدولة التي تتبع المليشيات

الثلاثاء 2015/01/20
عراق في زمن الدولة التي تتبع المليشيات
كيف يمكن انتظار "تغيير" ما يصبّ بصالح تعزيز موقع الدولة مع تزايد اتكالها على القوى والتشكيلات الخارجة عنها
increase حجم الخط decrease

في حديث خاص مع رئيس جهاز أمني مُكلّف بإدارة العلاقة مع الحشد الشعبي، لم يخف قناعته بأن مشروع بناء "دولة" قد تراجع خطوات كبيرة، مركزاً على أن العراق الحالي هو عراق المرجعية و "حشدها" الذي يقاتل تحت راية الفتوى، التى أصدرها السيد على السيستاني، بعيد سقوط الموصل في حزيران من العام الماضي، ما يجعلنا نتذكر أن الانتخابات بدأت أصلاً بفتوى أو توصية من المرجعية عام 2005، وهو ما قد هيأ الفرصة آنذاك لبعض النخب لاعتماد، ما اعتُبر اعتباطاً "مشروع دولة"، لم يلبث أن وصل العام الماضي للفشل واقترب من الانهيار، لولا فتوى من السيستاني، لم تبقِ من المجال المنسوب للدولة، سوى دور ثانوي ضعيف ينحصر الآن في "التمويل". فالرواتب التي تَقَرَر تقديمها لأعضاء الحشد الشعبي، هي الخيط الوحيد الذي مازال يُذكّر اليوم بما يُمكن تسميته "دولة عراقية".


المسؤول المذكور، كان عائداً للتو من سفره إلى مناطق في محافظتي ديالي وصلاح الدين، بينما كان يتهيأ للسفر الأسبوع المقبل إلى الرمادي. سفراته كانت محصورة في ضمان توزيع رواتب "الحشد الشعبي"، بعد محاولات أولية أُرسلت خلالها الرواتب عبر أشخاص عمدوا لمصادرتها والهرب بها إلى جهات مجهولة. المشكلة أن الرجل لم يكن من النوع الذي يملك أفقاً يتيح له الخروج عن النطاق التنفيذي الإجرائي البحت، وهو لا يريد أن يصدق بأن ما هو مضطر الى القيام به بنفسه، ناجم عن استحالة إقامة "دولة" وفق آليات الغلبة الطائفية، ما يتعارض مع أسس البنية الوطنية، ويمنع بناء نظام ثابت ومستقرّ يحقق النصاب الوطني.


يمتاز أغلب "الموظفين" بأقلمة وحصر استجاباتهم، إلا أن حالة القيّمين على أجهزة الزمن العراقي الراهن، لا تكاد تنتمي حتّى لمثل هذا النموذج من البيروقراطيين التقليديين، فالمبدأ الذي يصرّ هؤلاء على الاقتناع به، مؤَسَس على قاعدة توهم، يفضحها الإنفصال بين "الدولة" وكينونتها وطبيعة عملها، وبين الركض الحالي وراء الحشد الشعبي والمليشيات، مع توهم إدارتها بمجرد توزيع الرواتب عليها، ما يدفع بهؤلاء لتكبير موقعهم ودورهم، ومن ثم لمحاولة اختلاق وتضخيم وجود الدولة وحضورها، ذلك في حين لا يميل أي من الموكلين بمهمة الركض وراء المليشيات والحشد الشعبي من موقع "الدولة " للاعتراف، بأي تقصير أو "هزيمة" سابقة، يحتمل أنها حدثت بدلالة سقوط الموصل وغيرها من المحافظات، مايستوجب المراجعة العميقة.


قال لي المسؤوال المذكور حرفياً: "لقد خضنا معركة كونية" ضد داعش، إلا أنه تلعثم حين سألته "من الذي خاضها ؟"، الجيش الذي أنفقت عليه مليارات الدولارات، انهار وسلّم أسلحته للطرف الآخر، وهو ما يزال أضعف الحلقات، ويواصل، في معظم الأحيان، بيع المواقع التي توضع بعهدته بعد طرد داعش منها. أما حين سألته عن المستقبل، وكيف ينظر إلى مصير وموقع الحشد الشعبي والمليشيات التي تقاتل داعش حالياً، فقد اكتفى بالصمت، وترك لي أن أقرأ لمحة الحيرة والقنوط التي أطلت من عينيه.


هذه الحيرة ليست استثنائيةً أو مقتصرة على هذا المسؤول، بقدر ما تمثل من جوٍّ مهيمنٍ على الأقلية النادرة من بين الأكثر انغماساً وحساسية بين الموكلين بإدارة بقايا ما يُعرف بالأجهزة المستقلة عن المليشيات، أو الأحزاب الطائفية، المتغلغلة داخل تلك الأجهزة أصلاً، هذا بينما يزداد شعور هؤلاء، بعد التجربة اليومية، بأنهم لا يملكون القرار، أو إمكانية التأثير على سير الأحداث، سواء على جبهات القتال أو بما يتعلق باتخاذ القرارات الخاصة بمختلف الشؤون، وضمان حسن تنفيذها.


هذه النقطة بالذات، تجعل ما يُشاع عن رغبة أو نية لدى رئيس الوزراء حيدر العبادي، إجراء تغييرات في العلاقة مع المكوّنات الأخرى، أو محاربة ظاهرة الفساد المستشرية، أمراً يصعب تصوّره. فالتعرّض لمظاهر من هذا القبيل، لن يعدم المتورّطون فيها التمترس ضدها طائفياً وعشائرياً، في وقت تتضخم فيه أهمية أدوات الفعل الطائفي على الأرض، وفي الميدان الأكثر خطورة وحساسية، حيث المواجهة مع "داعش".


كيف يمكن انتظار "تغيير"ما يصبّ بصالح تعزيز موقع الدولة في وقت ضعفها الأقصى، ومع تزايد اتكالها وتعويلها على القوى والتشكيلات الخارجة عنها، والمنتمية لمنطق مختلف، ولطبيعة سلوك يعزز كل ما يخالف الانضواء تحت سقفها؟ هذا على فرضية أن العبادي يملك، بالفعل، الرغبة والنية ونوعية التصور الضروري الملائم للحالة ببعديها السابق الذي أفضى للانهيار، أو اللاحق الذي يغدو اليوم أكثر استحالة، مع تضاؤل الأدوات الضرورية، وغلبة البيئة المضادة لأي مشروع من شأنه أن يحلم بإختراق الآليات الطائفية التي أرسيت "العملية السياسية" عليها بعد عام 2003.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها