الخميس 2014/04/24

آخر تحديث: 02:02 (بيروت)

أنا أو لا بلد!

الخميس 2014/04/24
increase حجم الخط decrease
أنا أو لا أحد، أنا أو لا بلد!  هذا هو الشعار الذي رفعه  ومارس الحكم على أساسه قادة الأنظمة الاستبدادية في بلداننا العربية على امتداد أكثر من نصف قرن.  ولا أتحدث هنا عن البلدان الأخرى ما هو قريب منا في التاريخ وفي الجغرافيا وفي أمور أخرى، وما هو بعيد عنا في كل هذه الأمور.  فما يهمني هو ما نحن فيه في بلداننا من مأساة وضعتنا فيها أنظمة الاستبداد التي لا تعرف ولا تفكر في كيف تخرج من مواقعها في السلطة.  لكن قادة هذه  الأنظمة الاستبدادية لا يحتكرون هذا الشعار، رغم أنه من صفاتهم ومن سماتهم التي استوحوها من تاريخ الاستبداد في العالم القديم والحديث.  وإن لهم في هذا الشعار شركاء من ذوي الأيديولوجيات الدينية والمدنية المتعددة مدارسها.  فهؤلاء مثل أولئك يركنون إلى أيديولوجياتهم ويستقرون فيها باسم مرجعياتهم الفكرية القديمة والجديدة، ويديرون ظهورهم لكل من ما يتصل بحياة شعوبهم وبحقوقها وبحرياتها.  ولكل من هذه النماذج الاستبدادية طرائقها في التعبير عن "حقها الإلهي" في أن تكون هي وحدها من دون أحد صاحبة الرأي والقرار.  فإما أن يجري القبول تلقائياً ومن دون اعتراض من قبل أهل البلاد بما تخطط هذه القوى في مواقفها في السلطة السياسية أو السلطة الأيديولوجية في كل شأن من شؤون بلدانها، فتسير الأمور عندئذ في شكل هادئ كما لو أنه من طبيعة الأمور، وإما أن يجري الاعتراض عليها من قبل من يستيقظون من أهل البلاد مطالبين بالتغيير فتجري عندئذ معاقبتهم بكل الوسائل من دون حساب، وذلك تحت شعار: "نحن أو لا أحد، نحن أو لا بلد!".
إلى هنا يتخذ كلامي طابع الجزم والقطع والإطلاق، كما لو أنني أمارس من موقعي ما يمارسه أهل الاستبداد من مواقعهم من ذوي النموذجين الآنفيّ الذكر.  وحتى لا أتّهم بما ليس من صفاتي ولا من سماتي، ولا هو من قدرتي في الأساس، فإنني أسارع إلى الاستشهاد بما يجري في بلداننا الآن، وما جرى فيها خلال العقود الستة الماضية، معظمها إن لم يكن جميعها.  ولا أستثني بلدي لبنان في صيغة هي من خصوصيات الوضع فيه قديماً وحديثاً.  وليغضب من يغضب وليعتب من يعتب، ولينتقد ويجادل من يحب النقد الجدال، سواء من الموقع الصحيح أم من الموقع الخطأ شرط احترام الحق في الاختلاف باسم الديمقراطية التي نسعى إلى ترسيخها.
لن أدخل في العمق كثيراً.  فللعمق شروطه في الكتابة وفي العلم في الجغرافيا وفي التاريخ وفي السياسة وفي كل ما يتصل بالوجود على الكوكب.  سأبقى فيما أنا فيه الآن من تلقاء ذاتي مقيماً على السطح وفي شيء من الخيال.  فمن هذا الموقع بالتحديد تبدو لي الأشياء أكثر وضوحاً، ولا أحتاج إلى تقديم البراهين والأدلة مما "يفقأ العين"!.
في ضوء ما تقدم أدعو القارئ إلى قراءة سريعة للمشهد الذي جرى على سطح الأحداث والوقائع في بلداننا في الأعوام الأخيرة.  وللمشهد نماذج عديدة هنا وهناك وهنالك.  لكنني سأختار من تلك المشاهد الكثيرة ثلاثة فقط بالغة الوضوح والدلالة.
النموذج الأول هو ما شهدناه على امتداد اثنين وأربعين عاماً في ليبيا.  فالجميع يعرف أن ضابطاً برتبة عقيد اسمه معمر القذافي استولى على السلطة بانقلاب عسكري وحكم البلاد بمفرده على امتداد تلك الأعوام.  ومارس في البلاد ما يمارسه الطغاة عادة، في القديم من تاريخ العالم وفي الحديث منه.  وأجاز لنفسه أن يمارس أبشع أشكال السلطة، وأن يتدخل حتى في خارج بلاده، ما هو متاخم لها وما هو بعيد جداً في الجغرافيا وفي التاريخ وفي طبائع البشر وأنماط حياتهم.  وما أن دقت ساعة الخلاص من الظلم، وخرجت كتل شعبية كبيرة رافعة شعار التغيير، حتى استنفر الطاغية كل ما في ترسانته الاستبدادية من قوى قائلاً بلغته المعروفة التي انفرد بها ما معناه حرفياً: لا تغيير في البلاد أيها "الجراذين"، فإما أنا أو لا أحد وإما أنا أو لا بلد.  وانتهى الأمر بالطريقة التي صارت معروفة بكل تفاصيلها المأساوية.  لكن انتهاء أمر القذافي الذي وصفه بعض الذين كانوا "عبيداً" في سلطته بالمجنون، لن ينه ما خلّفه في البلاد بين ليلة وضحاها.  لكن التغيير سيأتي حتماً.
ذلك هو النموذج الأول.  أما النموذج الثاني فهو ما يتمثل بالأخوان المسلمين في مصر الذين ما أن وصلوا إلى السلطة ديمقراطياً بعد أن كانوا قد استولوا على الثورة الشعبية التي كان جمهورها ناقص الخبرة وغير موحد، حتى مارسوا كل ما أعطوه لتنظيمهم من حق "إلهي" وفق أيديولوجيتهم التي تربوا عليها على امتداد ثمانين عاماً، وقالوا بالفم الملآن: إما نحن في السلطة مدى الدهر أو لا أحد سوانا ولا مصر بعدنا.  وها هم يمارسون استبدادهم الأيديولوجي في الشارع إلى أن يهديهم الله، ويدركوا بعد الآلام التي أدخلوا البلاد فيها أن الزمن اختلف وأن عليهم أن ينخرطوا مع شعبهم في عملية بناء مصر المستقبل، وأن يخرجوا طوعاً من التاريخ السابق إلى التاريخ الجديد.
يبقى عليّ أن أقدم النموذج الثالث الذي ما يزال منذ ثلاثة أعوام يقدم لنا ما يؤكد على ما أشرت إليه في النموذجين السابقين.  إنه النموذج السوري.  ولعلي لا أظلم أهل النظام السوري إذا ما اعتبرت أن النموذج الذي قدموه في الأعوام الثلاثة الماضية لا سابق له حتى في أكثر أنظمة الاستبداد في التاريخ وحشية.  لقد دمروا سوريا من أقصاها إلى أقصاها.  دمروا العمران والتاريخ، ودمروا التراث، ودمروا الموقع الذي يعود إلى هذا البلد العربي العريق.  بكلمة دمروا كل شيء كان يحمل ذات مرة اسم سوريا.  لكن ما هو أفظع من هذه الأنواع في التدمير هو تدمير الحياة البشرية.  إذ لا يحصى عدد الذين لقوا حتفهم بكل أنواع الأسلحة، ولا يحصى عدد الذين هُجروا.  ومع ذلك يقول الطاغية بأن الحق "الإلهي" الذي يعود له ولعائلته يخوّله بأن يرشح نفسه وسط الدمار والخراب والموت لولاية جديدة في موقع رئيس البلاد.   لذلك فإن شعار "أنا أو لا أحد، أنا أو لا بلد" ينطبق عليه أكثر من النموذجين السابقين ومن سائر النماذج الشبيهة بهما في عالمنا العربي.
لقد أعلنت الثورات العربية عندما انطلقت قبل ثلاثة أعوام أن ساعة التغيير قد دقت، وأنه لا عودة بعد الآن إلى التاريخ الظالم والبائس.  لكن بين الاعلان عن التغيير وبين نقطة الحسم التي تفرض التغيير، مسافة لا بد من أخذها في الاعتبار.  وهي مسافة قد تكون طويلة في الزمن ومكلفة في الآن ذاته.
لقد انتهى زمن الطغيان والاستبداد والعسف بالصيغ المختلفة، بما فيها ما يحمل اسم الدين ضد قيمه الإنسانية.  ذلك هو ما نحن ذاهبون إليه في المستقبل الذي لا يحسب بالأيام وربما بالأعوام.  لكنه آتٍ آتٍ آتٍ ولو كره الحاقدون والمارقون والكافرون بحق الانسان في الحياة، الحق الذي لا يعلو عليه حق.
 
increase حجم الخط decrease