السبت 2014/08/30

آخر تحديث: 12:23 (بيروت)

ملف المفقودين... باب العدالة الإنتقالية

السبت 2014/08/30
ملف المفقودين... باب العدالة الإنتقالية
المفقودون لا يزالون أثراً يطرق باب ذاكرة الحرب يومياً... هل من مجيب؟ (علي سيف الدين)
increase حجم الخط decrease

يقول محمود درويش في ديوانه "ذاكرة للنسيان": "في الحرب فقط أدرك المقاتلون أن سلام بيروت مع بيروت مستحيل... وفي الهدنة فقط أدرك المقاتلون والمراقبون أن هذه الحرب لا نهاية لها وأن النصر فيها خارج توازن الهزيمة مستحيل، لعل الجميع أدركوا أن لا بيروت في بيروت". ولعل الجميع، بعد 24 عاما من السلام المزيف، أدركوا أن الذاكرة لن تكون يوما للنسيان.

الحرب انتهت... تحررت الطرق من الحواجز، تحررت النوافذ من القناصين، وتحرر الهواء من رائحة الموت والمقاتلين. الحرب انتهت، ومصائر آلاف المفقودين لا تزال عالقة في مكان ما يشبه ممر الرحيل الممتلئ بأرواحِ لم تشملها العدالة، فلم ترحل الى حيث يرحل الأموات ولا بقيت حيث يعيش الأحياء.

قد لا يهم زمان الرحيل، ولا مكان المأوى الأخير. المهم أن يحظى الراحلون بمكان تحفر عليه أسماءهم، وأن يحظوا بصلاتِ، بأغنية أو أي ترنيم. فممر الرحيل هذا، ليس بهواً منمقاً... هو زنزانةُ الضحايا السرية. يُتوفّى فيها الأحياء قبل أن يقضوا، وتخبأ فيها وجوه الأموات وأسماؤهم. لعلها، أي الوجوه والأسماء والمصائر، تمحى يوماً ما من الذاكرة، وتقفل عليها جميع الأبواب. والواقع أن من وقعوا ضحايا للحرب، وحدهم يعرفون أن شيئاً لا يوقف هذيان الذاكرة، الا حقيقة حاسمة، منصفة، وعادلة. يعرفون أن لا سلم، ما دامت بقايا الحرب مستمرة في الحاضر.


"إجا السلم وما جبلن ولادن"، تقول رئيسة لجنة أهالي المخطوفين وداد حلواني لـ"المدن". تنفي حلواني وجود سلم حقيقي: "بالنسبة لأهالي المفقودين، لم يتحقق السلم، لأن الحرب لم تعد لهم ما أخذته منهم"، أو بالأحرى، من أخذته منهم. سلم من؟ تسأل حلواني، "سلم الذين تسببوا بخطف الناس والذبح على الهوية والتهجير؟ هل مفهوم السلم أنهم تصالحوا وتقاسموا مواقع السلطة؟ والناس؟

"الناس"، أي الذين لم يدخلوا معادلة الحرب إلا مرغمين، وبصفة ضحايا. هؤلاء لم يخرجوا منها عندما قرر "أمراء الحرب" الانتقال إلى السلم، فهم لا زالوا ضحايا. "الأهالي كانوا ضحايا خلال الحرب، ولا زالو كذلك خلال السلم".  تترك حلواني عبارة السلم دائماً بين مزدوجين، فهي موضع شك بالنسبة اليها. فكيف لهذا السلم أن يكون واقعاً، في وقت لا تزال فيه ذاكرة الحرب تضج في ثنايا الحياة اليومية للضحايا.

 في كل مرحلة حاولت وداد أن تكتفي من عصف الذاكرة اليومي، تعود للغرق في الدوامة ذاتها من جديد. هي تعجز عن الإكتفاء بما فرض عليها من واقع... لديها الكثير من الأسئلة، لديها لغز ينغص عليها الحياة، وجل ما تحتاج اليه الإجابات. "كيف يعقل أن يكون المستقبل؟ وقبله الحاضر؟ كيف أستطيع أن أعيشهما ما لم أعالج الماضي؟". بالفعل، كيف يعقل أن تسير الحياة مع من يتوجس أن يدوس على بقايا أحبائه. "هذا المبنى الذي نجلس فيه لم يكن موجوداً خلال الحرب، ربما هو مبني على عظام زوجي، ربما أركن سيارتي يومياً فوقها"...

"معرفة مصير زوجي والمفقودين، مدخل مهم جداً نحو السلم"، تقول حلواني. المعادلة هنا بسيطة... لا سلم حقيقيا من دون تحقيق العدالة، وتحقيق العدالة لا يتم بغير التعامل مع أسرار الماضي بجدية. والعدالة هي سبيل الإنتقال الوحيد من الحرب الى السلم. والعدالة الإنتقالية، "ليست شكلاً خاصاً من أشكال العدالة، بل هي تكييف للعدالة على النحو الذي يلائم مجتمعات تخوض مرحلة من التحولات في أعقاب حقبة من تفشي انتهاكات حقوق الإنسان، وهي تهدف إلى تحقيق الإعتراف الواجب بما كابده الضحايا من انتهاكات"، بحسب تعريف المركز الدولي للعدالة الإنتقالية.

تشرح رئيسة مكتب لبنان في المركز هذا، كارمن أبو جودة لـ "المدن" أهمية الكشف عن مصير المفقودين في مسار تحقيق العدالة الإنتقالية. "تشكل معالجة ملف المفقودين بداية صحية جداً لفتح ملف الحرب واقفاله بشكل سليم". ذلك أنه من الضروري معرفة ما حصل خلال الحرب لعدم تكراره، وللانتقال إلى مرحلة سلام حقيقي ودائم. وهذا الشكل من السلام لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال المعرفة والذاكرة. "الكشف عن مصير المفقودين كقضية محورية، يفتح العديد من القصص ويخبر قصة الحرب والمعاناة الإنسانية التي خلفتها"، تقول أبو جودة.

أما عن وسائل المعرفة، فهي بيد الدولة التي تتحفظ عنها، متخطيةً الدستور والقانون. فالحكومة اللبنانية تتنصل من تنفيذ قرار قضائي صادر عن مجلس شورى الدولة يلزمها بتسليم كامل الملف المتعلق بالمفقودين. وهي بذلك تضرب عرض الحائط جميع مفاهيم العدالة والفصل بين السلطات، بالتالي الدستور.

"الدولة ملزمة بتسليم الملف، وهي تتحمل كذلك مسؤولية انشاء هيئة حقيقية غير مرتبطة بالدولة لإجراء تحقيق فعلي". تكمل أبو جودة حديثها مستنكرةً كل ادعاء يرمي الى اعتبار الكشف عن الحقيقة يتعارض مع السلم الأهلي: " المرحلة الانتقالية مبنية على اتفاق ضمني بين الحكومة والمجتمع. بموجب هذا الإتفاق يتنازل الأهالي عن حقهم بمحاكمة المسؤولين أو محاسبتهم مقابل حصولهم على حقهم بالمعرفة".

الأهالي من جهتهم يلتزمون تنفيذ الشق المتعلق بهم، ويتنازلون عن تحقيق "العدالة الفعلية"، في سبيل الوصول الى السلام عبر وسائل "العدالة الإنتقالية"."نحن لا نريد تحقيق العدالة"، تقول حلواني... "ليس لأن الأهالي ضد العدالة، بل للإقفال على مواجعنا بالمعرفة... نحن لا نريد تعليق المشانق، ولا الغاء قانون العفو! نحن لا نريد عدالة الماضي بالمحاسبة عليه، نريد عدالة الحاضر فقط...

increase حجم الخط decrease