الإثنين 2017/05/08

آخر تحديث: 18:58 (بيروت)

قبة الجنسية وحبة الإغتراب

الإثنين 2017/05/08
increase حجم الخط decrease

كاد وزير الخارجية اللبناني، صهر رئيس الجمهورية ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل أن يبق بحصة الطائفية، ويظهر في تغريدته المحتفية بتوقيع اول مرسوم استعادة جنسية لمتحدر لبناني على هامش مؤتمر الطاقة الإغترابية المنعقد في بيروت، ما يضمره من نزعات عنصرية مغلفة بعقيدة بدائية تستعيد في القرن الحادي والعشرين، امجاد القرن التاسع عشر. "فخور بأن اساهم في استعادة لبنان لهويته ولأبنائه"، قال باسيل في التغريدة.  إذًا، الأمر ليس في استعادة مواطن مهاجر لسجل قيده اللبناني، انما في استعادة الوطن لهويته الطائفية المتحولة، إن لم تكن المتلاشية، هوية لبنان كما تصورته وصورته النخب الصاعدة تحت رعاية الإنتداب (الكاثوليكي) الفرنسي.

دأب باسيل في جولاته الخارجية التي تتوقف على ترداد مقولة شاعت علنًا في مستهل الحرب الأهلية، بعدما كانت متوارية لياقة قبلها، عن ثالوث تاريخ الشعب اللبناني؛ ثلث مات، جوعًا او قتلًا، بسبب الأتراك (المسلمين) في الحرب العالمية الأولى، ثلث هاجر بسبب اضطهاد الأتراك انفسهم، وثلث لا يزال يقاوم (المسلمين الآخرين) حتى يبقى المسيحيون في الشرق المستبد. لا ينم ذلك عن ضحالة لغوية او انعدام الفصاحة، وهما عاملان ملازمان لكلام الوزير، وانما عن رؤية متكاملة للبلد الذي ينتمي اليه ويمثله ويتزعم تيارًا واسعًا ورثه عن حميه فيه. في اطار هذا المفهوم يمكن لتغريدة الوزير ان تعني ما قالته حرفيًا؛ هوية الوطن رهن بالهوية الطائفية لمواطنيه.

الّا ان المشكلة الفورية التي تنغص هذه الفرحة الرسمية، وعلى عكس الإحتفالية الرسمية بالإنتشار اللبناني في العالم، تتجلى في الحقائق التي لا يبدو ان الوزير نفسه ليس مهتمًا بها. ابرز هذه الحقائق أن الرواية الرسمية للإغتراب بمثابة زجل في أمر يتطلب تأريخًا. وتاليًا فإن المأمول رسميًا من كل كرنفال استعادة الجنسية سيتلاشى ويتبدد امام النتائج المحققة، وثالثًا أن في خريطة الإنتشار اللبناني، وهو الحقيقة اليتيمة في المشهد، أكثر من مهاجرين تركوا لبنان غصبًا عنهم ويتحرق احفادهم الى العودة اليه لقهر العثملي، واستعادة الأمجاد الفينيقية والفرانكوفونية.

من هم المهاجرون المعنيون باستعادة جنسيتهم اللبنانية؟ هذه أولى المشاكل. ليس في صفحة وزارة الخارجية التي يديرها باسيل أية معلومات، ربما تطغى مواقف باسيل وتصريحاته وجولاته الدائمة على اية اخبار أخرى، وليس هناك اية معلومات رسمية لبنانية حول العدد. لا تشذ حالة المغتربين هنا عن علاقة اللبناني بالأرقام عمومًا، الرقم اللبناني وجهة نظر، وكما ان الإحصاء ممنوع على اللبنانيين منذ العام 1932، لأسباب طائفية بحتة، فإن الأرقام المتعلقة بالمغتربين لا تقل ارتجالًا. الإستعانة بالإنترنت لا تفي بالغرض. تقول "ويكيبيديا" أن عدد المهاجرين اللبنانيين والمتحدرين منهم يتراوح بين 12 و15 مليونًا! هامش الخطأ هنا 20 بالمئة على الأقل. التدقيق بالرقم يقود الى مسألة ليست في التداول العلني على الأقل. عن أي لبنان نتحدث، هناك فارق في هذه المسألة. لبنان الكبير هنا ليس ما نعرفه عام 1920 على يد المندوب السامي الفرنسي الجنرال غورو، انه حسب نائب رئيس المؤسسة المارونية للإنتشار نعمة افرام في مقابلة نقلها موقع "جبلنا ماغازين" في اميركا لبنان فخر الدين وبشير الشهابي وما قبل المتصرفية "والذي كان يمتد الى بلاد الشام والاردن وفلسطين، ما يعني ان الأرقام المرتجلة تتضمن السوريين من وادي النصارى والفلسطينيين عمومًا. الفارق بين اعداد مغتربي لبنان الحالي وبين مغتربي لبنان المفترض ليس هينًا يتقلص العدد من اكثر من 12 مليونًا الى مليونين فقط.

المشكلة الثانية هي ان القانون اللبناني يمنح الجنسية لسلالة الذكور فقط. اللبنانية حتى لو كانت مهاجرة لا تمنح الجنسية لأولادها. المشكلة الثالثة هي صعوبة اقتفاء اثر اللبنانيين المهاجرين قديمًا الذين كانوا يحملون وثائق سفر تركية أو الحاملين لوثائق السفر الصادرة عن المتصرفية والقائمقاميتين. معظم هؤلاء وخصوصًا في العالم الجديد (القارة الأميركية) اصبحوا تلقائيًا جزءًا من بيئتهم الجديدة ولا يعني لهم لبنان أي شيء خاص، ثم ان أوضاع لبنان الأمنية والإدارية والقانونية لا تغري أي مهاجر مقتدر على العودة، فمن يمكنه الحصول على جواز سفره بالبريد لا يريد ان يعود للخضوع الى الرشاوى، ومن يحصل إبنه على منحة جامعية لتفوقه وحسب، لا يحلم بالعودة الى إستجداء الزعيم او أزلامه مساعدة.

المشكلة الرابعة اكثر وضوحًا. في انتخابات العام 2009 المفصلية، وفي عز الإستنفار الطائفي والمذهبي والسيادي في لبنان، وفي الانتخابات الثانية بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ومن دون الحاجة الى لبنانيين استعادوا جنسياتهم وحقهم الإنتخابي، وبعد اقرار حقهم قانونيًا بالتصويت عبر السفارات والقنصليات اللبنانية المنتشرة في العالم، بلغ عدد اللبنانيين الراغبين بالتصويت من الخارج، وفق النائب العوني الشديد الحرص على هوية المغتربين، نعمة الله ابي نصر 6733 فقط، أي اقل من عدد اللبنانيين في جزيرة قبرص. المفاجأة ان حوالي ثلث هؤلاء حسب ارقام الخارجية اللبنانية كانوا من الطائفة السنية، واذا أضيفت اليها الطائفتان الشيعية والدرزية، يصبح جميع الراغبين المسيحيين اقلية موصوفة، وهذه أرقام تقتصر على من هاجروا حديثًا وليس بينهم وبين وطن باسيل أربعة او خمسة أجيال.
المشكلة الخامسة أبسط وتتجلى في أن اللبنانيين ممن يتمتعون بحق المواطنية والتصويت، في الولايات المتحدة الأميركية، على نحو خاص، وتحديدًا في المناطق ذات الكثافة السكانية اللبنانية الأصل مثل ميشيغن ونيويورك ونيوجرسي، يشاركون بنسبة أقل من المستوى الأميركي العام في التسجيل والتصويت في الانتخابات، فاذا كان الأمر كذلك بالنسبة لإنتخابات عامة يصوتون فيها قرب بيوتهم وفي أماكن سكنهم، كيف سيكون الحال إن استدعى التصويت الذهاب الى قنصلية لن تكون على الأرجح في الولاية ذاتها، ما يعني بذل جهد مضاعف لمرات. كيف تقنع برازيليًا من اصل لبناني يفوق أربعة أجيال ان يصوّت في ساو باولو، لمرشح التيار في دير الأحمر اميل رحمة، أو مرشح التيار في جبيل عباس هاشم. الأرجح ان لديه أشياء كثيرة ليفعلها قبل ان يخصص يومًا او اثنين او ثلاثة للتصويت في انتخابات لا تعنيه معيشيًا او سياسيًا أو حزبيًا.

عن بعد، ومن ارض الإغتراب، تبدو صيحات باسيل ضائعة في ودايا الوقائع والحقائق والأرقام. لكن في بيئة سياسية قابلة للتفاعل مع ادونيس وعشتروت وكأنهما من الجيل السابق، أو تقفز فوق الحملات الصليبية والإستعمار الأوروبي لتقبع، باسم الوطن، في الحقد على العثملي، أو تعتبر وجود البعض امتدادًا لا ينقطع لعاملية هنا أو ابي ذرية هناك، أو لا تزال ترى انها مرابطة في الثغور، أو تتغنى بجبال عصية على الإمبراطوريات، يحكمها امراء حرب يتنافسون على ود الإمبراطوريات ذاتها، يبدو أن باسيل لا يجافي التقليد العريق. الاّ أن بين أوهام باسيل وبين الواقع مسافة لن يقصرها مرسوم موقع على عجل، ولن تلغيها المؤسسات الكنسية العاملة بجد على احياء موتى تعاقب الأجيال.


                  



increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها