السبت 2017/03/25

آخر تحديث: 08:12 (بيروت)

هزيمة تشريعية مدوية لترامب

السبت 2017/03/25
increase حجم الخط decrease

مُنَي الرئيس الأميركي دونالد ترامب الجمعة، بهزيمة سياسية مدوية أطاحت ما تبقى من الزخم المعنوي المحافظ الذي حمله الى البيت الأبيض. وأضطرت قيادة الأكثرية الجمهورية في مجلس النواب الى سحب مشروع قانون تعديل إصلاح التأمين الصحي الذي طار انتظاره، والذي كان بمثابة الرد اليميني الشامل على القانون الذي اقرته إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، في أكبر انتكاسة تشريعية تواجه إدارة ترامب التي تتعثر تكرارًا، فيما سيف التواطؤ مع روسيا يقترب من عنقها.

قد لا يجذب هذا التطور الاهتمام العالمي المطلوب، كونه يتعلق بسياسة أميركية محلية، الاّ أن العارفين بدينامية السياسة الأميركية والعلاقات بين السلطات وموقع الرئاسة في هذه المعادلة، يعرفون أن فشل أول وأكبر مبادرة تشريعية لعهد جديد لديه أكثرية برلمانية في مجلسي الشيوخ والنواب، حول ايقونة المعارضة اليمينية لعهد أوباما السابق، والوعد الشامل والحاسم بإلغائه من اليوم الأول، على يد رئيس جديد سيمل المواطنون من انتصاراته، يجعل من مصداقية الرئاسة الجديدة الممتحنة اصلًا في خبر كان. وإذا كانت هذه الرئاسة محاطة بالكثير من علامات الإستفهام الكبيرة فذلك يعني أن الرئيس سيكون بلا فعالية ولا نفوذ.

فبعد خمسة أشهر من الإنتظار، وشهرين من التحضير، واسبوعين من المفاوضات الماراثونية، بين البيت الأبيض وبين اجنحة الحزب الجمهوري، والتي تخللتها صفقات ووعود وتهديدات مبطنة وحملات إعلامية و"توتيرية" وتنبؤات بالجملة والمفرق، أعلن رئيس مجلس النواب بول راين في مؤتمر صحافي عاجل أنه لن يعرض مشروع القانون المسمى "القانون الأميركي للرعاية الصحية" على هيئة المجلس للتصويت. جاء هذا الإعلان بعد فشل ترامب وراين ومساعديهما في توفير الأصوات الكافية للمصادقة على المشروع على الرغم من الهامش المريح للجمهوريين في عضوية المجلس، حيث يحتلون 237 مقعدًا مقابل 193 للديمقراطيين، فيما يحتاج المشروع الى 215 صوتًا للتزكية. (هناك خمسة مقاعد شاغرة حاليًا).

في المناخ الشخصاني، الرمزي، والكيدي الذي فرضه ترامب والجمهوريون على واشنطن والسياسة في أميركا في الانتخابات الأخيرة، كان منطقيًا أن يسعى البيت الأبيض والكونغرس الى أن يصادف إقرار القانون الصحي الجديد في الكونغرس، بالضبط في الذكرى السنوية السابعة لإقرار قانون الإصلاحات الصحية التي اقرتها الإدارة السابقة والمعروفة باسم "أوباما كير" التي صادفت يوم الخميس الماضي. الاّ أن حسابات الحقل الكيدي لم تنطبق على حسابات البيدر البرلماني، فتم تأجيل التصويت الى يوم الجمعة، على أمل أن ينجح الرئيس العدواني في ترهيب الأعضاء الجمهوريين المعترضين، وهذا ما حاوله بالفعل عبر اجتماعات متواصلة ومكالمات هاتفية وتغريدات على "توتير" وتصريحات صحافية دون جدوى. وكان على ترامب أن يتجرع كأس الفشل.

ما يضاعف الإحساس الجمهوري والمحافظ بالخيبة، بالإضافة الى حقيقة التمتع بالأكثرية المريحة في مجلسي الكونغرس، هو أن هذه الأكثرية التي تحققت في العام 2010، أي بعد عامين على انتخاب أوباما، بهمة ونشاط "حزب الشاي" وضعت وأقرت خلال ست سنوات أكثر من ستين قانوناً يلغي "أوباما كير" في مواجهة فيتو رئاسي، فيما لم تتمكن من تمرير القانون في ظل وجود رئيس جمهوري لن يمارس حق النقض الدستوري! كذلك إصرار ترامب خلال حملته الانتخابية، وحتى بعد انتخابه، على أنه سيلغي "أوباما كير" ويستبدله في اليوم الأول لرئاسته.

يضاف الى ذلك أن ترامب الذي بنى كل ظاهرته على ادعاء القدرة الذاتية على اجتراح الحلول واتمام الصفقات، والذي يصر على استعداء الصحافة المستقلة ووصفها بـ "الأخبار الكاذبة"، لم يتمكن من التوافق مع أعضاء حزبه على تمرير أكبر وأهم مبادرة تشريعية في عهده، وعندما فشل استبق الإعلان البرلماني بالإتصال شخصيًا بصحيفة "نيويورك تايمز" التي يصفها في تغريداته بأنها "فاشلة" ليعلن أن ما حصل هو أفضل الممكن! معتبرًا أن فشل مشروع القانون الجمهوري يعود الى عدم وجود أي دعم ديمقراطي له، وأن عدم إقرار القانون المقترح سيؤدي الى انهيار "أوباما كير" وبالتالي سيسعى الديمقراطيون اليه لإنقاذ الموقف. كذلك حرص ترامب على التواصل مع الصحيفة الوطنية المرموقة الأخرى "واشنطن بوست" ليعلن بنفسه سحب مشروع القانون.

صحيح أن مجموعة "حزب الشاي" البرلمانية التي تضم 32 عضوًا من مجلس النواب كانت في صدارة المعارضة لمشروع القانون من منطلقات أيديولوجية ترفض تدخل الحكومة الفدرالية في القطاع الصحي، أو أي قطاع آخر، وتتبنى المفهوم العاري لآليات السوق في كل شيء، الاّ أن المشكلة الفعلية لم تكن هناك. معظم أعضاء "حزب الشاي" المنضويين في "ائتلاف الحرية" داخل الحزب الجمهوري، منتخبين من دوائر آمنة جمهوريًا ولا خوف على حظوظهم بإعادة الإنتخاب، اما الأعضاء المنتخبون في ولايات ذات أكثرية ديمقراطية او من دوائر تشهد تنافسًا فعليًا مع الديمقراطيين، والتي شهدت اقبالًا غير مسبوق على اللقاءات المفتوحة مع أعضاء الكونغرس منذ انتخاب ترامب، فكانوا حريصين على الإبقاء على معظم ميزات "أوباما كير" لأنها تمس مباشرة مصالح ناخبيهم، وبالتالي قد تطيح بطموحاتهم المستقبلية ان تغاضوا عنها.
بين الخطاب الشعبوي الجذاب الذي قد يترجم الى أصوات مرجحة في صناديق الإقتراع، وبين السياسة (كفعل تقريري) في نظام ديمقراطي، مسافة واضحة قطعها ترامب في وقت قياسي. الوقوف امام حشود متحمسة بنداءات عنصرية أو وطنية او دوغمائية شيء، وممارسة الحكم من موقع المسؤولية بين محترفين شيء آخر. لا تزال ظاهرة ترامب حتى الآن زاخرة بأمثلة واقعية وحقيقية على الفارق بين الحالتين، لكن في الديمقراطيات ذات التقاليد الراسخة عبر الأجيال لا مكان مضمون للخطاب الشعبوي أو للنرجسية الشخصانية، فالحيز العام ليس مجرد تعبير مجازي وانما معطى حقيقي يتمتع بحصانة وحماية مؤسسات عريقة.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها