الإثنين 2016/08/15

آخر تحديث: 18:00 (بيروت)

الألعاب الأولمبية : الغاؤها أفضل

الإثنين 2016/08/15
increase حجم الخط decrease

اللافت في الألعاب الأولمبية التي تتوالى كل عامين بتناوب بين الشتاء والصيف وتشارك فيها الغالبية الساحقة من دول العالم، انها لا تثير المطالبة بالغائها ولا تحدث حراكًا عالميًا يدعو الى التخلي عنها، بعدما تحولت في العقود الخمسة الأخيرة الى كرنفال لإستعراض عضلات الدول الكبرى على بقية دول العالم، لتضيف الى سجلها الموبوء اصلًا مثالب تفصيلية، تجعل منها أقرب الى الإهانة للرياضة كهواية، وللدول الفقيرة كأعضاء.

المطالبة المرجوة ليست من نوع التحرك الموضعي على الخلفية المعيشية كالذي رافق الدورة الحالية في مدينة ريو دي جانيرو في البرازيل، وإن كان ذلك يعكس وجهًا مهمًا من مفاعيلها السيئة؛ المرجو هو انبثاق حركة عالمية، على غرار الحركة التي تصدت للعولمة في بداياتها، أو التي ناهضت الحروب الإمبريالية، وانتشار السلاح النووي، وتمكنت من وضع هذه القضايا على شاشة الإهتمام السياسي والشبابي عالميًا.

فهذه المؤسسة اجترحها فكر نخبوي اوروبي، يهدف الى ايجاد مسارات جديدة للتفاعل بين المجتمعات المتنازعة وتكريس لغة جديدة في العلاقات بين الدول، وترجمها في السوربون النبيل الفرنسي البارون بيار دي كوبرتان عام 1892، انحرفت مع الأيام عن غايتها النبيلة (بمواصفات اوروبا بعد عصر التنوير) وتحولت الى ميدان جديد للصراع، خصوصًا مع صعود النازية والفاشية بانواعها في اوروبا بين الحربين الكونيتين، لتزداد تسييسًا خلال الحرب الباردة، قبل ان تهيمن عليه المصالح التجارية وتحولها الى كارتل لا يختلف كثيرًا عن اي من الشركات المتعددة الجنسيات.

المسافة التي قطعها الأولمبياد الحديث من اول مباريات اقيمت في اثينا عام 1896، الى برلين عام ، كانت كافية 1936، تعبويًا ليطل ادولف هتلر من منصتها مزهوًا ليسوّق أحط الأنظمة العنصرية التي عرفها البشر دون عناء، ولم تكن ويلات الحرب العالمية الثانية الفظيعة كافية لتوعية العالم الذي تسابق المنتصرون فيه على وراثة هتلر بدل نبذه، وتتحول المباريات الودية الى مواسم لتسعير المشاعر القومية والتباري في النفوذ وممارسة البهلوانات الإعلامية وتشجيع الإنشقاقات الكيدية وطلبات اللجوء، تمهيدًا لتحويلها الى السياسة الصريحة من خلال اعتماد قرار مقاطعتها بنداً دائماً في السياسة الخارجية للدول النافذة اعتبارًا من العاب موسكو عام 1980، والتي قاطعتها اميركا واكثر من ستين دولة اخرى ضغطت عليها واشنطن.

الا ان ذلك لم يكن الحدث الكبير الوحيد في المسار الأولمبي ذلك العام؛ ففي العام 1980 وصل الى سدة الرئاسة الأولمبية، وزير الرياضة السابق في عهد الجنرال فرانكو في اسبانيا وصديقه المقرب خوان انطونيو سامارانش، الذي استهل عهده بالغاء الجانب التطوعي من الألعاب الأولمبية وفتح باب التجارة امام اللجنة التي تحولت بين ليلة وضحاها من مجموعة نبلاء ميسورين مستعدين لتكريس اوقاتهم وجهودهم في سبيل الرياضة (وفق معاييرهم ومبادئهم) الى مجلس ادارة يعقد صفقات مالية ويقرر من له الحق في المشاركة ومن له الحق الحصري في التغطية التلفزيونية ومن له حق الإعلان في الملاعب وعلى المنشورات والمطبوعات. اصبحت اللجنة بمثابة ادارة لشركة متعددة الجنسيات بموازنة سنوية تتضاعف ملياراتها كل عام، وارتفع مردودها من البث التلفزيوني فقط من 80 جنيهًا استرلينيًا في اولمبياد ملبورن في استراليا عام 1956 الى 3.5 مليارات دولار اميركي لتغطية المباريات من العام 2000 الى العام 2008، دفعتها شبكة ’ان.بي.سي‘ الأميركية.
ازاء مبالغ من هذا النوع والتصاعد الصاروخي في العائدات التي تجنيها المدن المضيفة، ومع الصلاحيات المطلقة للجنة الأولمبية وعدم وجود سلطة قانونية تخضع لها عم الفساد وانتشرت الرشاوى وسادت ثقافة التنفيعات. تكررت فضائح رشوة اعضاء اللجنة والمكتب التنفيذي من قبل ممثلي مدن مرشحة للإستضافة (فضيحة الألعاب الشتوية في مدينة سالت ليك سيتي في ولاية يوتاه الأميركية مثالًا)، وتعّود الأعضاء الذين اصبحت الدول الأعضاء تختارهم على الهدايا الثمينة، سيارات فخمة ومجوهرات واموال نقدية ورحلات واجازات مدفوعة ومحسوبيات لأقاربهم وانسبائهم والمحسوبين عليهم، مما يصعب احصاؤه في كتاب كامل.

جاءت مع الأموال والتغطية التلفزيونية والبث المكلف، نزعات النجومية، وكانت الخطوة التلقائية التالية نزع صفة الهواية عن المشاركة انفتح الباب امام مشاركة المحترفين، النجوم، لتحقيق مشاهدة اعلى في الأسواق الغنية، ومعها انفتح الباب امام رياضات جديدة تلقى قبولًا شبابيًا في مجتمعات معينة، خصوصًا أميركا، في كلا الموسمين الشتوي والصيفي، ولا تعرفها معظم دول العالم على الإطلاق، مثل كرة الشاطئ والتزلج على اللوح والهوكي، وصار على لاعب هاوٍ من آسيا ان يتبارى في كرة السلة مثلًا مع لاعب في الدوري الأميركي قيمة عقده مع ناديه المحترف تعادل الموازنة السنوية لوزارة الرياضة في بلد متوسط الحجم في افريقيا.

لم يقتصر الفساد على اللجنة الأولمبية ومكتبها التنفيذي، بل وصل بسرعة الى الدول النامية لتكون عضوية اللجنة الأولمبية والمشاركة في البعثات من الإمتيازات الدسمة المثيرة للتنافس، أو المغريات والمكافآت العزيزة جدًا، حسب نوع النظام السياسي في الدولة المعنية، لذلك يفوق عدد الرسميين المرافقين عشرة اضعاف عدد الرياضيين، الذين يكونون بدورهم عرضة للإستنساب والمحسوبية وليس للكفاءة ليرفعوا علم بلادهم عاليًا، فيما اعضاء الوفد الذين لا علاقة لمعظمهم بالرياضة يعتبرون الأولمبياد موسم ملذات وتسوق ليس الا

لم تلغ تجارية الألعاب الأولمبية التسييس فيها، بقي سلاح المقاطعة مشهرًا، وبقيت المشاركة موسمًا للمناكفات الإقليمية والحدودية؛ من ذلك ان اللاعبين العرب على سبيل المثال، ذوي الحظوظ القليلة في الحصول على الميداليات، يجدون في الإمتناع عن المشاركة في مباراة أو وسيلة نقل أو الإقامة في الفندق نفسه مع رياضي يمثل الكيان الإسرائيلي، بديلًا معنويًا مقبولًا، يهلل له الإعلام العربي ويضعه في طليعة اخباره. الا ان الأنكى هو انخراط دول باجهزتها في تسهيل تعاطي رياضييها للمنشطات والعقاقير الممنوعة وحتى الإستثمار في تطوير انواع معقدة منها، وهذا ما ادى الى منع معظم الفريق الروسي من المشاركة في الأولمبياد الأخير، بعد ان حاولت روسيا دون نجاح يذكر توظيف الألعاب الشتوية الأخيرة التي استضافتها في مدينة سوتشي في الدعاية السياسية. بالطبع لا يقتصر التوظيف وتسهيل المنشطات على الروس، فالكثير من هذه الحالات كشف في اميركا التي تمارس ذلك، لأسباب بنيوية عبر القطاع الخاص اكثر.

علاوة على ذلك كله، ثمة امران لا يقلان اهمية في مقاربة الألعاب الأولمبية. الدول الفقيرة والنامية التي اضاف الهم الأولمبي بندًا ملحًا الى متاعبها، لا يمكنها بامكاناتها الضئيلة استضافة الألعاب الأولمبية او تنشئة رياضيين قادرين على التنافس دوليًا. ففي الدول الغربية المتقدمة صناعيًا، وفي الدول الكبرى ذات انظمة الحكم الموجه، هناك آليات لتنمية المواهب الرياضية تبدأ على مقاعد الدراسة الأولى (ثلث الشعب العربي لا يعرف المدارس البتة) وهناك بنية تحتية لممارسة الرياضة، بالإضافة الى الكوادر التدريبية والرعاية الرسمية؛ تتولى الشركات الكبرى توفير الموارد في دول اقتصاد السوق، لذلك يعتبر التنافس بين رياضيي الدول النامية وبين رياضيي هذه الدول مجرد فرصة لإلتقاط الصور التذكارية، والترفيه عن المسؤولين المحظوظين، فيما احتمال الإستضافة لا يمكن مجرد التفكير به.

تفيد الأرقام المحققة حتى الآن ان لا مجال للمقارنة بين نتائج الدول المتقدمة صناعيًا وبين الدول النامية ففي حين ان المجموع العام للميداليات في استراليا يبلغ 480، وفي كندا 449، بريطانيا 806،  الدنمارك 190، فرنسا 780، المانيا (قبل الوحدة وبعدها) 1681، ايطاليا 663، هولندا 376، السويد 527، سويسرا 323، الولايات المتحدة 2681، اي ما يفوق نصف المجموع العام للميداليات، وهي ارقام لم يقترب منها سوى الإتحاد السوفياتي قبل انهياره، يبلغ مجموع الميداليات التي حصلت عليها الدول العربية مجتمعة 65، فيما لا يتجاوز عدد الميداليات التي حصلت عليها الهند، التي يفوق عدد سكانها جميع الدول الغربية المذكورة مجتمعة 26 ميدالية. بينما هناك 75 دولة لم تحصل على اية ميدالية.

كان نافرًا في الدورة الأولمبية الحالية ان يقرر الفريق الأميركي ان يسكن سفينة سياحية مستأجرة بدل فنادق ريو دي جانيرو، فيما التقارير الإخبارية الوارد الى الشاشات الأميركية تركز تغطيتها على مستوى الخدمات المتدنية والمخاطر الصحية التي يمكن ان تواجه الرياضيين ’الأميركيين‘ (وكأنهم وحدهم من يستحق الإهتمام)، لكن المسّوغ لنظرة كهذه أن بين الداعمين الرسميين الإثني عشر للأولمبياد ثماني شركات أميركية عملاقة منها كوكا كولا وفيزا وجنرال الكتريك ومكدونالدز، مقابل شركتي بناسونك وتويوتا اليابانيتين، سامسونغ الكورية الجنوبية، وآتوس الألمانية (اكبر سوق لها جميعًا في اميركا).

بين الألعاب الأولى في اثينا عام 1896 التي شاركت فيها 14 دولة تمثلت ب241 لاعبًا، وبين الألعاب الحالية في الريو التي تشارك فيها 206 دول ممثلة بأكثر من 11 الف لاعب ولاعبة، قطع الأولمبياد مسافة زمنية ومؤسسية كبيرة، الا أن الحلم الذي بدأ على أمل تغيير العالم بطريقة مبتكرة وغير عنيفة انجرف الى السياسة والتعبئة، قبل ان يغمره طوفان المال والنجومية والنفوذ ليصبح جزءًا محتفى به من مشاكل النظام العالمي المختل. الحل ليس بالمزيد من الفساد والإفساد للدول النامية والفقيرة، وليس في الإستلاب لمنطق العولمة من فوق، الأمر يتطلب مقاربة جادة ومختلفة من قبل النخب الوطنية والمعنيين برياضة افضل، حتى لو اقتضى الغاء هذه الألعاب، فالدول الغنية لديها الكثير من المواسم الرياضية الإقليمية المقتصرة عليها، تحت مسمى البطولات الدولية، ومن تبقى يحتاج الى تمنية رياضية في البشر والبنى التحتية وليس الى المزيد من المرتشين والفاسدين والمحظوظين وهم كثر على اية حال.


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها